تشهد محافظة قنا، واحدة من أسوأ موجات العنف القبلي وفوضى السلاح في تاريخها الحديث. فخلال الأشهر الماضية، سقط عشرات القتلى والجرحى في اشتباكات قبلية دموية، وسط ذهول شعبي وغضب متصاعد من أداء الأجهزة الأمنية، التي يتهمها أبناء المحافظة بالتقصير المتعمد، وربما التواطؤ، في كبح جماح السلاح المنتشر خارج سيطرة الدولة.

من قرى نجع حمادي إلى قوص، ومن دشنا إلى نقادة، لا يكاد يمر أسبوع دون وقوع اشتباك مسلح، غالبًا ما يتم بأسلحة آلية، وسط غياب حقيقي للردع، وسيطرة ما يمكن تسميته بـ"حكم العائلات"، حيث تتحول الخلافات البسيطة إلى مجازر جماعية.

 

مشاهد من الجحيم

في الأسبوع الأخير فقط، قُتل خمسة أشخاص وأُصيب أكثر من عشرة آخرين في اشتباكات مسلحة اندلعت بين عائلتين في مركز دشنا. الشهود يؤكدون أن المعركة استمرت أكثر من أربع ساعات متواصلة، واستخدم فيها الطرفان بنادق آلية و"جرينوف" ومقذوفات بدائية.

يقول أحمد.م، أحد سكان قرية السمطا:"سمعنا أصوات طلقات كأننا في ساحة حرب، الشرطة لم تأتِ إلا بعد انتهاء كل شيء، وظلت تراقب الوضع من بعيد دون تدخل يُذكر".

وفي نجع حمادي، أودت مشاجرة ثأرية قبل أيام بحياة ثلاثة أشخاص بينهم طفل يبلغ من العمر 12 عامًا، بعد إطلاق وابل من الرصاص العشوائي وسط شارع تجاري. "الرصاصة لا تفرق بين طفل وشيخ"، تقول منى.س، وهي أم فقدت نجلها في تبادل نار سابق بين عائلتين: "الدولة مش شايفة ولا حابة تشوف.. وكأن قنا دولة تانية ملهاش قانون".

 

السلاح للجميع.. والدولة صامتة

من المعروف أن قنا، مثل عدد من محافظات الصعيد، تعاني من انتشار واسع للأسلحة غير المرخصة، بعضها مهرب من ليبيا أو السودان، وأخرى يتم تصنيعها محليًا في ورش سرية. ومع ذلك، تشير شهادات عديدة إلى أن الأجهزة الأمنية تغض الطرف عن هذا الواقع، بل وتستخدمه أحيانًا في تحقيق توازنات بين العائلات النافذة.

الناشط الحقوقي خالد عمار كتب على حسابه في "فيسبوك": "هناك سياسة أمنية تقوم على ترك السلاح في يد القبائل حتى تبقى الدولة قادرة على التحكم عبر 'الردع المتبادل'. هذه ليست سيادة قانون، بل تقسيم نفوذ بين الدولة والعائلات".

أما السياسي المعارض عمرو عبد الهادي فقال في تغريدة على منصة "إكس": "السيسي الذي يعتقل شباب القاهرة لأنهم كتبوا تغريدة، لا يحرك ساكنًا أمام من يقتل في قنا بالبنادق الآلية. يبدو أن الولاء للنظام يغفر كل شيء".

 

الأمن : غياب أم تواطؤ؟

يتهم معارضون الحكومة المصرية وأجهزتها الأمنية بأنها "ترعى الصراع القبلي بشكل غير مباشر"، إما عبر تجاهل الإنذارات الأمنية المتكررة بوجود تحركات مسلحة، أو عبر إجراء مصالحة شكلية لا تتضمن نزع السلاح أو تطبيق القانون.

يقول أحد الوجهاء، طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية: "الشرطة بتيجي بعد ما الضحايا يقفلوهم النعوش. مفيش ضبط سلاح، ومفيش تحقيقات جدية. الأمور بتتحل بـ'جلسة عرب' أو تدخل من نائب برلماني تابع للحكومة".

ويضيف: "النتيجة أن كل بيت بيشتري سلاح، والكل مستعد يدافع عن نفسه. هذه ليست دولة، هذه غابة".

 

جلسات الصلح.. حبر على ورق

في أغلب حالات الاقتتال القبلي، تتدخل القيادات الأمنية لعقد ما يُسمى بجلسات "الصلح العرفي"، والتي غالبًا ما تنتهي دون توقيع عقوبات قانونية أو نزع أسلحة، بل وتُفرض أحيانًا على الطرف الضعيف، ما يكرّس منطق "التحكم بالقوة".

يقول المحامي الحقوقي هاني راضي، من مركز قوص: "الصلح العرفي تحول إلى وسيلة لغلق الملفات بدلًا من تنفيذ القانون. يُقتل شخص، ثم يُجبر أهله على قبول الدية، ويتم إطلاق سراح الجناة بعد أسابيع. هذا ليس عدلًا، هذا تكريس للثأر".

 

الدولة تعزز الفوضى بالصمت

في نظر كثير من المراقبين، فإن ما يجري في قنا هو صورة مصغّرة لفشل الدولة المصرية في فرض القانون خارج نطاق العاصمة والمراكز الكبرى، حيث تتحول مناطق كاملة إلى "مربعات مغلقة"، يحكمها العرف والسلاح لا الدولة.

الكاتب الصحفي سليم عزوز كتب في مقال تحليلي: "النظام لا يرى في قنا وغيرها من مدن الجنوب سوى خزان بشري وقت الانتخابات، وبيئة يمكن السيطرة عليها عبر مشايخ ونواب موالين.. أما الدم، فليكن ماءً!".

 

غياب الإعلام.. وصمت الدولة

رغم كثافة الأحداث، تندر التغطيات الإعلامية الوطنية عن هذه المجازر المتكررة، وغالبًا ما يُكتب عنها في بضعة أسطر، دون ذكر الأسماء أو الأسباب أو توضيح من الطرف المعتدي. وتتهم المعارضة النظام بأنه "يتعمد التعتيم على هذه الجرائم"، حتى لا يتم الكشف عن حجم الفشل الأمني والسياسي.

وأخيرا إن ما يحدث في قنا ليس مجرد مشاجرات بين عائلات، بل هو عرض لمرض مزمن تعانيه الدولة المصرية: غياب العدالة، ضعف القانون، وتسييس الأمن. في ظل هذا الواقع، يصبح السلاح هو الحكم، والدم هو لغة الردع، والضحايا مجرد أرقام في هوامش الأخبار.

ويبقى السؤال: إلى متى يظل الصعيد خارج معادلة الأمن الحقيقي؟ وهل يمكن لدولة تدّعي الاستقرار أن تسمح بوجود دويلات قبلية داخل حدودها؟