في 23 يوليو 1952، قاد تنظيم "الضباط الأحرار" بقيادة جمال عبد الناصر انقلابًا عسكريًا أطاح بالملك فاروق وأنهى النظام الملكي، مُعلنًا قيام الجمهورية، وقد رُوّج لهذا الحدث على أنه "ثورة" شعبية، رغم أنه كان تحركًا عسكريًا خالصًا، وشهدت السنوات التالية مجموعة من التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تركت بصماتها العميقة على بنية الدولة والمجتمع.
إصلاح زراعي ومجانية التعليم..
من أبرز إنجازات انقلاب يوليو كانت قوانين الإصلاح الزراعي التي بدأت في سبتمبر 1952، حيث تم تحديد الحد الأقصى لملكية الأراضي بـ200 فدان ثم خُفض لاحقًا، مما أدى إلى توزيع قرابة 2 مليون فدان على الفلاحين خلال عقدين. كذلك، شُرع في تطبيق مجانية التعليم في المدارس والجامعات، وهو ما أتاح لفئات واسعة من الشعب فرصة الوصول إلى التعليم، وساهم في نشوء طبقة متعلمة من خلفيات فقيرة ومتوسطة.
لكن بالرغم من هذه الخطوات، حذّر اقتصاديون من أن هذه السياسات لم تترافق مع تطوير كافٍ في البنية التحتية أو الإدارة التعليمية، مما تسبب في تدهور نوعية التعليم على المدى البعيد، كما لم تحقق الزراعة الاستدامة الإنتاجية اللازمة.
تأميم قناة السويس
في 26 يوليو 1956، أعلن عبد الناصر تأميم قناة السويس، مما اعتُبر ضربة للاستعمار البريطاني والفرنسي، ورغم العدوان الثلاثي، نجحت مصر في الحفاظ على القناة، واعتُبر ذلك انتصارًا قوميًا.
وفي سياق التصنيع، أُنشئت عشرات المصانع الكبرى مثل الحديد والصلب بحلوان، ومصنع الألومنيوم في نجع حمادي، وبُنيت السد العالي بدعم سوفيتي (1960–1971)، ووفرت الطاقة الكهرومائية ومياه الري، لكن بالمقابل ألحقت أضرارًا بيئية كبيرة على المدى الطويل.
وقد وصل الإنفاق على القطاع العام إلى أكثر من60 % من الناتج المحلي الإجمالي في الستينيات، لكن غياب المنافسة وضعف الكفاءة أدّيا إلى ترهُّل اقتصادي.
القمع السياسي..
أحد أكبر الخسائر التي لحقت بمصر بعد انقلاب 1952 كان القضاء على الحياة الحزبية والديمقراطية، فبعد حظر الأحزاب في يناير 1953، أُنشئت أنظمة استبدادية تتوارث القمع، بدءًا من عبد الناصر، مرورًا بالسادات، ووصولًا إلى مبارك ثم السيسي.
وقد أصبحت الانتخابات شكلية، والبرلمانات مُطوّعة، والأجهزة الأمنية أداة للسيطرة.، وأكد تقرير صادر عن "هيومن رايتس ووتش" عام 2022 أن أكثر من 60 ألف معتقل سياسي يقبعون في السجون المصرية، كثير منهم بلا محاكمة عادلة.
أرقام وحقائق بعد سبعة عقود
- من 1952 حتى 2025، شهدت مصر 4 رؤساء حكموا من صفوف العسكر: محمد نجيب، جمال عبد الناصر، أنور السادات، حسني مبارك، وعبد الفتاح السيسي.
- بلغ حجم الديون الخارجية لمصر قرابة 165 مليار دولار حتى منتصف 2025؛ قفزت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي بصورة غير مسبوقة.
- حوالي 60% من إجمالي الاقتصاد الرسمي يخضع بصورة مباشرة أو غير مباشرة لسيطرة مؤسسات عسكرية أو حكومية، مع تزاحم رسمي للقطاع الخاص.
- معدل التضخم وصل إلى 35% سنوياً في بعض السنوات الأخيرة، مع ارتفاع غير مسبوق في أسعار السلع الأساسية وتراجع نصيب الفرد من الدخل الحقيقي.
من الاستقلال إلى التبعية الاقتصادية
على الرغم من أن مشروع يوليو رفع شعار الاستقلال الاقتصادي، فإن السياسات اللاحقة كرّست التبعية للخارج، فبعد نكسة 1967، زادت المديونية واعتمدت مصر على المعونات الخليجية والسوفيتية، ثم انفتحت اقتصاديًا في عهد السادات على المعسكر الغربي.
وفي عهد مبارك، ترسخت سياسة الخصخصة، ما أدى إلى بيع القطاع العام بثمن بخس، وبعد 2013، ارتفع الدين الخارجي ليبلغ 168 مليار دولار بنهاية 2024، وفقًا لتقرير البنك المركزي، مع تصاعد فوائد الدين التي تستهلك أكثر من60 % من الإيرادات العامة.
السيسي: استكمال السيطرة العسكرية على الاقتصاد
منذ تولي عبد الفتاح السيسي الحكم بانقلاب عسكري في يوليو 2013، توسعت سيطرة الجيش على الاقتصاد بشكل غير مسبوق.
وبحسب تقرير البنك الدولي، فإن نسبة الشركات العسكرية في السوق تتجاوز 30% من مجمل الاقتصاد الرسمي، وتم منح الجيش امتيازات استثمارية وإعفاءات ضريبية شاملة، وسط تراجع القطاع الخاص بنسبة أكثر من 40% منذ 2016.
وقد وصف الخبير الاقتصادي فخري الفقي في لقاء تلفزيوني عام 2021 هذا الوضع قائلًا: "الاقتصاد المصري يعاني من انغلاق بسبب انحسار المنافسة، وسيطرة جهة واحدة على مفاصل السوق".
من الريادة العربية إلى العزلة الإقليمية
كانت مصر قائدة للعالم العربي خلال الخمسينيات والستينيات، لكنها فقدت كثيرًا من وزنها الإقليمي بعد النكسة وانكفائها على أزماتها، ورغم معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979، لم تستعد مصر دورها الفاعل، بل باتت تدور في فلك السياسات الإقليمية لدول الخليج والولايات المتحدة.
وأكد وزير الخارجية الأسبق نبيل فهمي عام 2020 أن "مصر لم تعد رقمًا صعبًا في المعادلة الإقليمية، بسبب أولويات أمنية داخلية على حساب المصالح الاستراتيجية الخارجية".
ماذا بقي من يوليو؟ أسطورة معلقة فوق ركام
اليوم، وبعد مرور أكثر من 70 عامًا على انقلاب يوليو، يبقى بعض الإرث الاجتماعي مثل مجانية التعليم، وشبكة الطرق التي أسسها عبد الناصر، وأصول صناعية بعضها ما يزال قائمًا.
لكن أغلب هذه "الإنجازات" تآكلت بفعل سوء الإدارة والفساد، والانغلاق السياسي الذي تسبب في كبح الإبداع والانفتاح والتقدم المؤسسي.
ويختصر المفكر جلال أمين في كتابه "ماذا حدث للمصريين؟" الخلاصة بقوله: "لقد نقلنا انقلاب يوليو من عهد استبداد ملكي محدود، إلى استبداد جمهوري مطلق".
ديمقراطية غائبة
لم تكن خسائر حكم العسكر في مصر مقتصرة على الاقتصاد فحسب، بل شملت انحسار الحريات، وتراجع التعليم، وتهميش القضاء، وتحول مؤسسات الدولة إلى كيانات مطيعة بلا رقابة حقيقية.
ومع ازدياد الدين العام، وتدهور قيمة الجنيه، وتصاعد معدلات الفقر (تجاوزت 32.5% وفق الجهاز المركزي للتعبئة العامة عام 2020)، تبقى الحاجة ملحة إلى مراجعة جذرية لما خلفه انقلاب 1952، وإعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية، لا عسكرية.