كشف رئيس شعبة الأدوية باتحاد الغرف التجارية، الدكتور علي عوف، في تصريحات صحفية حديثة، أن شركة "جونسون آند جونسون" الأميركية العملاقة خفضت إنتاجها في مصر بأكثر من 50 %، وتستعد للانسحاب الكامل من السوق المصري خلال الشهور المقبلة، إذا لم تُحل المشكلات التي تواجهها، وعلى رأسها تثبيت الأسعار في ظل التضخم، وارتفاع رسوم هيئة الدواء المصرية.

وأضاف عوف أن الشركة ليست وحدها، بل إن هناك شركات دوائية أجنبية أخرى تفكر في تقليص أو وقف عملياتها داخل مصر، بسبب ما وصفه بـ"بيئة استثمارية طاردة"، قائلاً: "الأمر لم يعد مجديًا للشركات متعددة الجنسيات".

أزمة التسعير والرسوم..

من أبرز الأسباب التي دفعت شركات أجنبية كبرى للتراجع عن الاستثمار في السوق الدوائي المصري، هو تثبيت أسعار الأدوية في ظل ارتفاع تكاليف الإنتاج بسبب انخفاض الجنيه المصري أمام الدولار، وتضاعف أسعار المواد الخام.

فقد تم تثبيت أسعار آلاف الأصناف منذ سنوات، رغم أن أسعار المواد الخام ارتفعت بنسبة تتراوح بين 100 % إلى 300% منذ عام 2022، وهو ما جعل تكلفة الإنتاج تتجاوز سعر البيع في عدد كبير من الأصناف.

كما اشتكى المصنعون من زيادة الرسوم المفروضة من هيئة الدواء المصرية، حيث ارتفعت بعض الرسوم المرتبطة بالتسجيل والتجديد والإفراج الجمركي بنسبة تجاوزت 200% خلال العامين الماضيين، بحسب تصريحات سابقة لممثلي شركات محلية وعالمية.

نقص في الأدوية الحيوية وعودة السوق السوداء

نتيجة لهذه الأزمة، بدأ المواطن المصري يلمس تداعياتها بشكل مباشر، فقد اختفت من الأسواق أدوية حيوية لعلاج الأمراض المزمنة مثل أدوية القلب والسكري وبعض المضادات الحيوية، بينما ارتفعت أسعار بعض الأصناف في السوق السوداء بنسبة تتجاوز 300%، بحسب تقارير صادرة عن مركز الحق في الدواء.

وأفاد التقرير أن أكثر من 120 صنفًا دوائيًا يعاني من انقطاع جزئي أو كامل منذ مطلع عام 2025، في وقت تتزايد فيه شكاوى الصيادلة من قلة المعروض وارتفاع تكلفة الحصول على الأدوية.

السياسات الحكومية تُفاقم الأزمة

يرى خبراء اقتصاديون أن فشل حكومة الانقلاب في التكيف مع متغيرات السوق العالمي ورفضها تعديل سياسات التسعير ساهم في تعقيد الوضع.

وقال الخبير الاقتصادي هاني توفيق في مداخلة تلفزيونية: "المعادلة ببساطة غير منطقية، لا يمكن أن تطالب الشركات بالإنتاج في ظل خسائر متراكمة، والنتيجة الطبيعية أن ينسحبوا".

وفي السياق نفسه، قال الدكتور محمود فؤاد، المدير التنفيذي لمركز الحق في الدواء: "هناك تجاهل حكومي خطير لتحذيرات سابقة حول اختفاء شركات عالمية كانت تضمن استقرار السوق، واليوم ندفع الثمن".

تداعيات اقتصادية وصحية طويلة المدى

تخارج الشركات الأجنبية لا يهدد فقط وفرة الدواء، بل يُنذر أيضًا بتراجع الاستثمارات الأجنبية في القطاع الصحي، والذي يُعد من القطاعات الحيوية المرتبطة بالأمن القومي.

وبحسب تقرير الهيئة العامة للاستثمار، بلغ حجم الاستثمارات الأجنبية في قطاع الأدوية نحو 950 مليون دولار في 2021، لكن هذا الرقم تراجع في عام 2024 إلى أقل من 600 مليون دولار، وسط توقعات بمزيد من الانخفاض في 2025 إذا استمرت الأزمة دون حل.

وفي تصريح للصحافة الأجنبية، قالت أليسون هيوز، مديرة العلاقات الحكومية في إحدى شركات الدواء العالمية العاملة في مصر: "نعاني من بيروقراطية مرهقة، وانعدام الشفافية في قرارات التسعير والتسجيل، وهناك تمييز واضح بين الشركات المحلية والأجنبية".

هل هناك مصلحة وراء الانسحاب الأجنبي؟

يُثير البعض تساؤلات حول المستفيد الحقيقي من انسحاب شركات أجنبية كبيرة، وهل يُمهّد ذلك الطريق أمام شركات محلية أو مملوكة للجيش لاحتكار السوق؟

بحسب تقرير نُشر في موقع "مدى مصر" عام 2023، فإن بعض شركات الأدوية التابعة لجهات سيادية بدأت في التوسع، وحصلت على امتيازات خاصة في التسجيل والتسعير، وهو ما يراه البعض "إعادة تشكيل لخريطة السوق"، بطريقة تُقصي المنافسين الأجانب وتمنح ميزة نسبية لكيانات معينة.

وأكد الخبير الاقتصادي مدحت نافع في مقال بصحيفة الشروق، أن "السيطرة على قطاع حساس مثل الأدوية يجب ألا تُترك لجهات غير خاضعة للرقابة البرلمانية أو المحاسبة المؤسسية".

الحلول الغائبة..

يرى مراقبون أن الخروج من الأزمة يتطلب إصلاحات جذرية تشمل إعادة النظر في سياسات التسعير، وتقديم حوافز حقيقية للمستثمرين، وتخفيض رسوم التسجيل والتجديد، إضافة إلى تقليص تدخل الدولة في تسعير الدواء لصالح آليات السوق.

في هذا السياق، دعا رئيس غرفة صناعة الدواء الأسبق الدكتور محيي حافظ إلى عقد "حوار وطني حقيقي يضم الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني لإعادة بناء الثقة"، محذرًا من أن استمرار الأوضاع الحالية سيؤدي إلى "كارثة صحية لا تقل خطورة عن الأزمات الاقتصادية".

ويبدو أن أزمة الدواء في مصر لم تعد مجرد مشكلة تجارية أو استثمارية، بل تهدد الأمن الصحي والدوائي للمواطنين، في ظل سياسات حكومية متعثرة، وشبه غياب للحلول، والسؤال الأهم: هل تتدخل الدولة لإنقاذ ما تبقى من الثقة في السوق؟ أم أن تخارج "جونسون آند جونسون" سيكون مجرد بداية لسلسلة من الانسحابات الأخرى؟