تعيش مصر في السنوات الأخيرة طفرة غير مسبوقة في انتشار الغش التجاري بمختلف صوره، من الأغذية حتى الأجهزة الكهربائية والمنتجات اليومية، هذه الظاهرة التي باتت تمس صحة المواطنين واقتصاد البلاد بشكل بالغ، تثير أسئلة خطيرة حول دور الرقابة وفعالية السياسات الحكومية في عهد قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي، وسط تصاعد انتقادات المعارضة بشأن تفاقم العشوائية وغياب الردع الحقيقي.

ضربة نوعية تكشف حجم الكارثة..

إحباط عملية إعادة تدوير الأجهزة الكهربائية في البساتين

في 17 يوليو 2025، أعلن جهاز حماية المستهلك عن ضبط أكبر عملية من نوعها لإعادة تدوير الأجهزة الكهربائية التالفة واستبدال هويتها التجارية، حيث تمت مصادرة 1463 جهازًا (ما بين ثلاجات، بوتاجازات، غسالات، وتكييفات) داخل مخزن بمنطقة البساتين بالقاهرة، كانت الأجهزة تُجهز للبيع للمستهلكين على أنها جديدة، باستخدام أسماء علامات تجارية شهيرة وملصقات كفاءة طاقة وهمية.

الكارثة الأخطر أنه تم العثور على 1560 ملصق بطاقة كفاءة طاقة مزورة، وكذلك أدوات للتعبئة والتغليف النهائية وملحقات صناعية تُستخدم لتغيير ملامح الأجهزة وإظهارها في صورة أجهزة أصلية، كانت هذه المنشأة تعمل بلا أي ترخيص رسمي، ودون إذن من أصحاب العلامات التجارية، وبعيدًا عن أعين الرقابة الحكومية.

الغش من الغذاء إلى مستحضرات التجميل

إن واقعة البساتين ليست استثناء، ففي يناير 2023، تم ضبط مصنعين غير مرخصين في محافظة الغربية يقلدون علامات تجارية لشركات الشاي والقهوة ويستخدمون مواد لصناعة المنتجات لا علاقة لها بالغذاء، بل وصل الأمر أحيانًا لاستخدام مواد خطرة مثل بودرة السيراميك والأسمنت الأبيض في تصنيع "شاي" مغشوش! ويتم تغليف هذه المنتجات لتبدوا أصلية وتوزع في الأسواق الشعبية على أنها ذات جودة.

ولم يقتصر الغش التجاري على الأجهزة والأغذية فقط، بل طاول مستحضرات التجميل، ومنشطات جنسية، حتى قطع غيار السيارات والزيوت، الجهات الرقابية تؤكد تزايد ضبط "مصانع بير السلم" التي تعمل دون رقابة رسمية، مستغلة غياب العقاب الرادع وتدني مستويات المعيشة وفقدان ثقة المستهلك في الأجهزة الحكومية.

غش يتجاوز الأجهزة.. الغش يمتد للدواء والغذاء

الأخطر من الأجهزة الكهربائية هو الغش في المواد الغذائية والأدوية، ففي أغسطس 2022، ضبطت وزارة الصحة بالتعاون مع مباحث التموين مصنعًا في منطقة أبو رواش بمحافظة الجيزة يصنّع أقراصًا دوائية مزيفة ويغلفها بعبوات تحمل شعار شركة عالمية، كما ضبطت الهيئة القومية لسلامة الغذاء أكثر من 13 طنًا من اللحوم الفاسدة في حملة بمحافظة الإسكندرية في سبتمبر 2023.

وكل هذه الوقائع تُظهر أن الأزمة أعمق من مجرد بضائع مزيفة، بل إنها تعبير عن فشل في منظومة الحكم نفسها، بحسب محللين يرون أن غياب الشفافية وتفشي المحسوبية يفسحان المجال لهذا الفساد المتصاعد.

 

تصريحات رسمية تعكس قلقاً.. وتحرك بطيء

أقر رئيس شعبة المواد الغذائية بالغرفة التجارية بالجيزة هشام الدجوي بأن ظاهرة الغش الغذائي تفاقمت وباتت تحتاج لحملات ضبط دائمة وتوعية مكثفة للمواطنين لمنع شراء منتجات مجهولة المصدر، مؤكدًا على ضرورة إصلاح منظومة الرقابة بالكامل وليس الاكتفاء بردود أفعال موسمية.

كما كشف رئيس قطاع التجارة الداخلية بوزارة التموين عبدالمنعم خليل أن الغش لم يعد مقتصرًا على الأطعمة، بل امتد إلى معظم المنتجات، وصرّح: "الغش وصل إلى حد قطع غيار السيارات والأدوات الكهربائية والمنزلية وحتى مستحضرات التجميل. هناك مصانع لا تخضع لأي رقابة أو حساب".

من الجانب البرلماني، صرح النائب محمد زين الدين عن مشروع قانون جديد شدد العقوبات، وأكد أهمية الردع لمواجهة ظاهرة تعتبرها الدولة "تضع الاقتصاد المصري في مأزق".

لماذا تزايدت ظاهرة الغش التجاري مؤخرًا؟

1. ضعف الردع التشريعي والرقابي
على الرغم من أن القانون المصري يجرم الغش التجاري منذ الأربعينات، إلا أن العقوبات المتبعة ظلت لسنوات غير كافية، حتى مشاريع القوانين الأخيرة (2023-2024) لم تطبق بعد بشكل صارم، ضعف آليات التنفيذ والتطبيق أتاح انتشار مصانع غير شرعية وتجار السوق السوداء.

2. الانهيار الاقتصادي وارتفاع الأسعار

خلال الفترة الأخيرة، أصيب الجنيه المصري بواحدة من أسوأ موجات التراجع، وتضاعفت أسعار المنتجات المحلية والمستوردة، مما دفع بعض التجار والمصانع لصناعة تقليد رديء للسلع في محاولة لجذب جمهور غير قادر على دفع ثمن الأصلي.

3. تفشي البطالة والفقر

يتزايد انتشار الفقر والبطالة، ومع انسداد الأفق أمام فئات واسعة من الشباب دفع بهم ذلك إلى الانخراط في أنشطة غير مشروعة مثل تصنيع السلع المغشوشة أو توزيعها في الأسواق الشعبية.

4. فشل سياسات حماية المستهلك

وعلى الرغم من الإعلان المتكرر عن حملات الرقابة، إلا أن الجهود غالبًا ما تكون رد فعل لأزمات وفضائح، كما هو الحال مع واقعة البساتين، وليست سياسة وقائية مستدامة.

كيف يؤثر الغش التجاري على الاقتصاد والمجتمع؟

  • خسائر اقتصادية بالجملة: تضرر مباشر للعلامات التجارية الوطنية والعالمية وخروج أموال بالمليارات من الاقتصاد المنظم إلى السوق غير الشرعي، وانخفاض ثقة المستثمرين الأجانب بالسوق المصري.
  • ضرر بالصحة والسلامة: كثير من المنتجات المغشوشة تحمل مخاطر صحية مميتة على المواطنين من أغذية فاسدة حتى أجهزة كهربائية قد تتسبب في حرائق مميتة.
  • استنزاف موارد الدولة: فشلت الحكومة حتى الآن في حصر وضبط حجم التجارة غير المشروعة وضبط النظام الضريبي المرتبط بها.

معضلة الحل في ظل النظام الحالي

بينما تسعى الأجهزة الرقابية لإعطاء صورة عن "تحقيق إنجازات نوعية" كما في قضية البساتين، فإن الأرقام والوقائع اليومية تكشف أن الغش التجاري تحول إلى ظاهرة مترسخة بجذور اقتصادية واجتماعية لا تعالج بتصريحات أو حملات موسمية.

المعارضة تؤكد أن غياب منظومة ردع شاملة، وتفشي الفساد الإداري، وضعف الشفافية في ملف حماية الأسواق والمستهلكين، عوامل جعلت من الغش التجاري عرضًا حادًا لأزمة الحكم في مصر، وأن الوصول إلى حل جذري يتطلب إصلاحًا هيكليًا وليس فقط إجراءات جزئية تفشل في حماية المواطن واقتصاد الوطن.

تفاقم الغش التجاري يعكس فشلًا مزدوجًا في إدارة الاقتصاد وحماية المجتمع، ويضع علامات استفهام حقيقية حول جدوى السياسات المنفذة تحت حكم الرئيس السيسي، وسط وعود لا تتحقق وواقع يزداد سوءًا، وحده الإصلاح الجذري الشفاف والتشريعات القوية والتنفيذ الصارم قد يكسر دائرة الغش التي تلف المواطن المصري وتنهش اقتصاده ومستقبل أجياله.