في ليلة 15 يوليو 2016، وداخل 21 ساعة فقط، عاش الشعب التركي واحدة من أخطر الليالي في تاريخه الحديث. انقلاب عسكري دموي خطط له تنظيم "فتح الله غولن" الإرهابي، انطلق من قاعدة عسكرية قرب أنقرة، ووصل إلى حد قصف البرلمان وقتل مئات المواطنين، لكنه سقط أمام إرادة جماهيرية هائلة قادها نداء حاسم من الرئيس رجب طيب أردوغان، في مشهد غيّر مسار البلاد إلى الأبد.
الانقلاب في الذاكرة التركية
تسع سنوات مرّت على محاولة الانقلاب الفاشلة التي نفذتها عناصر مرتبطة بتنظيم غولن داخل الجيش والمؤسسات التركية. لا تزال أحداث تلك الليلة – من قصف البرلمان ومقر الاستخبارات إلى المواجهات في الشوارع – ماثلة في ذاكرة الأتراك، باعتبارها مفترق طريق مفصلي بين مستقبلين مختلفين.
اختراق الدولة من الداخل
منذ ستينيات القرن الماضي، بدأ فتح الله غولن في بناء تنظيم متشعب، ادّعى الطابع الديني والتربوي، لكنه اتخذ من التغلغل داخل مؤسسات الدولة هدفًا خفيًا. مع الوقت، امتد نفوذ التنظيم إلى القضاء، والشرطة، والتعليم، والجيش، وأجهزة الأمن، عبر آلاف "الخلايا" التي تنتظر إشارة التحرك.
وبينما كانت الدولة التركية تكافح اختراقات التنظيم، شهدت السنوات السابقة محاولات انقلاب ناعمة، أبرزها:
محاولة استدعاء هاكان فيدان، رئيس الاستخبارات، في 7 فبراير 2012.
قضايا فساد ملفقة ضد مسؤولين حكوميين في ديسمبر 2013.
توقيف شاحنات الاستخبارات في طريقها إلى سوريا مطلع 2014.
نقطة التحول: استشعار الخطر وسرعة الانقضاض
بعد فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات نوفمبر 2015، علم التنظيم أن الحكومة تعتزم اتخاذ قرارات عسكرية لإقصاء ضباط موالين لغولن في اجتماع مجلس الشورى العسكري.
في مارس 2016، خرج فتح الله غولن علنًا مرتديًا جبة خضراء برسالة مشفّرة لعناصره في الجيش. لاحقًا، عُقدت اجتماعات سرّية في فيلات فاخرة بأنقرة، بين مدنيين وقادة عسكريين من التنظيم، لوضع خطة التنفيذ.
وفي 13 يوليو 2016، عادت القيادات من زيارة إلى بنسيلفانيا، بعد أن نالت "الموافقة" النهائية من غولن على بدء الانقلاب.
الساعة صفر.. البلاغ الذي غيّر المعادلة
في 15 يوليو، وفي توقيت حرج، أبلغ طيّار برتبة مقدم جهاز الاستخبارات التركي عن محاولة انقلاب وشيكة، تتضمن خطة لاختطاف رئيس الجهاز هاكان فيدان.
فورًا، نُقلت المعلومات إلى رئيس الأركان خلوصي أكار، وصدرت تعليمات بإغلاق المجال الجوي وإعادة الطائرات إلى قواعدها. عندها، قرر المخططون تقديم ساعة الصفر إلى الثامنة والنصف مساءً بدلًا من الثالثة فجرًا.
التنفيذ.. قصف وقمع ودماء
مع بدء الانقلاب، قُصفت مقار أمنية، منها مديرية الأمن وقيادة العمليات الخاصة. سيطرت القوات الانقلابية على جسري البوسفور ومحمد الفاتح في إسطنبول، واقتحمت مبنى "تي آر تي" وأجبرت المذيعة على بث بيان الانقلاب.
في أنقرة، احتُجز رئيس الأركان خلوصي أكار، واستشهد أول جندي مدافع هو الرقيب بولند آيدِن.
لكن أخطر التصعيدات تمثلت في قصف مبنى البرلمان ثلاث مرات، وسقوط عشرات الشهداء من المدنيين، فيما أُطلقت النيران من المروحيات على الحشود في الشوارع.
النداء.. أردوغان يشعل الشارع
في تمام 00:24، ظهر الرئيس أردوغان عبر الهاتف على قناة "سي إن إن تورك" ليطلق نداءً شهيرًا: "أدعو شعبنا للنزول إلى الساحات".
استجابت الجماهير بسرعة مذهلة، وخرج ملايين الأتراك في مختلف المدن يواجهون الدبابات بصدورهم، ويقفون أمام المؤسسات الحيوية.
اللحظات الفاصلة.. أبطال يسقطون والطائرات تقصف
أحد أبرز مشاهد البطولة، سجّله الرقيب عمر خالص دمير، الذي أطلق النار على اللواء الانقلابي سميح ترزي، قبل أن يُستشهد على يد الجنود.
في المقابل، استُشهد 36 مواطنًا أمام رئاسة الأركان وحدها، كما قُصفت منشآت بث فضائي ومحطات أمنية.
نهاية الانقلاب.. السيطرة تعود للشعب
الساعة 03:00: تحرير مقر "تي آر تي".
الساعة 04:00: أوامر قضائية باعتقال القضاة التابعين لتنظيم غولن.
الساعة 06:19: سقوط قنابل على مقر الرئاسة.
الساعة 08:26: تحرير خلوصي أكار من قاعدة أقنجي.
الساعة 12:57: إعلان رسمي بانتهاء المحاولة الانقلابية.
انتهت المحاولة بإفشالها الكامل خلال 21 ساعة، وسقط خلالها 253 شهيدًا، إضافة إلى آلاف الجرحى.
وفاة العقل المدبّر.. غولن يرحل في أمريكا
في 20 أكتوبر 2024، توفي فتح الله غولن في أحد مستشفيات ولاية بنسيلفانيا الأمريكية، حيث كان يقيم داخل مجمع محاط بالحراسة، يضم 8 فلل على مساحة 130 دونمًا.
ورغم تقديم تركيا سبع مذكرات رسمية لتسليمه، لم تتخذ الولايات المتحدة أي إجراء لتوقيفه.
وفاة غولن شكّلت نهاية رمزية لحقبة دموية، ظلّت تركيا تطارد أشباحها سنوات طويلة، بينما يواصل القضاء محاسبة المتورطين في الانقلاب داخل البلاد وخارجها.
شاهد:
https://www.youtube.com/watch?v=sMIWOF2Lwe0
https://www.youtube.com/watch?v=rjjgaYIhi8Y
https://www.youtube.com/watch?v=L1NPFUUp6bc
https://www.youtube.com/watch?v=5X1Ho1r0d0k