انهار عقار مكون من خمسة طوابق على رؤوس ساكنيه في حي حدائق القبة الواقع في قلب القاهرة صباح 20 يونيو الماضي، وتبعه بعد أقل من 24 ساعة انهيار العقار المجاور، مخلفين مأساة جديدة تُضاف إلى السجل المصري المثقل بكوارث "عقارات الموت" التي تحول أحلام السكان في لحظات إلى كوابيس، إذ باتت رائحة التراب الممزوج بالموت تملأ المكان الذي كان قبل ساعات يعج بالحياة.

تتكرر الحوادث، إذ انهار يوم الاثنين 23 يونيو، عقار مكون من ثلاثة طوابق في حي شبرا، وعقار ثان في حي السيدة زينب، ما يجعلها أعراضا واضحة لأزمة بنيوية عميقة تهدد بكارثة أوسع، في ظل غياب شبه تام للإحصائيات الرسمية، وتعامل حكومي يراه كثيرون قاصراً، ومجرد رد فعل من دون استراتيجية وقائية حقيقية.

وكشف تقرير برلماني، قبل أسبوع، عن وجود نحو 5000 منزل آيل للانهيار في العاصمة القاهرة، ونحو نصف هذا الرقم في مدينة الإسكندرية، ثاني أكبر مدن البلاد، وجميعها توصيفها القانوني "عقارات آيلة للسقوط الفوري، وشديدة الخطورة على من فيها".

وأكدت دراسة سابقة لكلية الهندسة في جامعة القاهرة، صدرت في عام 2015، لا تزال أرقامها تتردد بمثابة جرس إنذار، وجود ما يقرب من مليون عقار آيل للسقوط في مصر، وأن هناك 132 ألف قرار إزالة صادرة بحق مبانٍ خطرة، لم ينفذ منها سوى نسبة ضئيلة، ما يجعلها قنابل موقوتة موزعة على الخريطة السكانية، يمكن أن تنفجر في أي لحظة.

وخلف كل انهيار قصص إنسانية مفجعة. طاولت كارثة عقار حدائق القبة المنهار أسرة الرائد في الجيش المصري ضياء مصطفى، والذي لقي حتفه تحت الأنقاض، تاركاً خلفه طفلين وزوجة. بينما يقول رجل أربعيني بالقرب من الركام: "خرجت من البيت صباحاً إلى العمل، وعدت لأجده كومة تراب. زوجتي وأطفالي لا أعرف عن مصيرهم شيئاً".

ولا تنتهي المأساة عند انتشال الضحايا والمصابين. ففي كل عقار منهار عدد من الأسر الناجية التي تجد نفسها في العراء. وتشير التقديرات الأولية لحوادث شهر يونيو الحالي، إلى تشريد ما لا يقل عن 30 أسرة فقدت كل ما تملك، المأوى، والأثاث، ومدخرات العمر، والذكريات.

قرب العقار المنهار في السيدة زينب، يقول السبعيني سيد، الذي نجا بأعجوبة: "كل ما أملكه الآن هو ملابسي التي أرتديها. 50 سنة من الشقاء ذهبت في لحظة. أين أذهب بأولادي الآن؟".

في محيط الركام، حيث ما زالت رائحة التراب الممزوجة بالدموع تعبق في المكان، تقف الشابة حياة تحاول لملمة ما تبقى من يومها، وتقول: "نطالب الدولة بالإسراع في توفير سكن بديل لنا، ولو مؤقتًا، حتى لا نبيت في الشارع. سنقيم عند الجيران هذه الأيام، لكني أخشى من مصير من سبقونا. أعرف أسرًا انتظرت شقق الدولة لأكثر من عشر سنوات بعد انهيار منازلها.. ولا تزال تنتظر"، وفقًا لـ"العربي الجديد".

ورغم أن الحكومة المصرية تدير برنامجًا لحماية الأسر المتضررة من انهيار العقارات ضمن مشروع "تكافل وكرامة"، المموّل من الاتحاد الأوروبي، إلا أن وتيرة الاستجابة تبدو بطيئة، وقدرة البرنامج على احتواء المتضررين محدودة، في ظل التكرار المستمر لحوادث الانهيار، الناتجة في معظمها عن تهالك البنية العقارية، والنزاعات المستمرة بين الملاك والمستأجرين حول تكاليف الصيانة، وغياب حلول عادلة ومستدامة.

 

أسباب الانهيارات معروفة.. والحلول لا تنفذ

في هذا السياق، يؤكد الاستشاري الهندسي إسلام أحمد أن ما يحدث ليس سوى نتيجة حتمية لمسار خاطئ تُرك ليتفاقم. ويقول: "نحن ندور في دائرة مغلقة منذ عقود. الأسباب واضحة ومعروفة للجميع: أولاً، ظاهرة التعليات المخالفة، حيث يُضيف الملاك طوابق جديدة فوق مبانٍ قديمة من دون أي دراسة إنشائية، ما يضاعف الضغط على الأساسات المتآكلة. ثانيًا، غياب الصيانة الدورية رغم أن القانون يُلزم اتحادات الشاغلين بها، لكنها لا تُنفذ في معظم العقارات القديمة. ثالثًا، غش مواد البناء في سوق المقاولات غير الرسمي، وهو أمر متفشٍ وخطير".

ويضيف: "كل كارثة انهيار نتعامل معها كحادثة منفصلة، رغم أن الحقيقة أنها مجرد عارض واحد من مرض مزمن يصيب جسد العمران في مصر، والذي آن أوان الاعتراف به ومعالجته بجدية".

 

صراع التشريعات والمصالح يفاقم الأزمة

وترتبط هذه الأزمة أيضًا بتشريعات إيجار قديمة ما زالت تثير الجدل، وتدفع كثيرًا من الملاك إلى التمنع عن صيانة العقارات ذات العوائد الإيجارية المحدودة، في حين يرفض المستأجرون المشاركة في أي نفقات إصلاحية. وتتحوّل العقارات بفعل هذا التجاذب إلى قنابل زمنية تنتظر اللحظة المناسبة للانفجار.

في خضم ذلك، تبقى أصوات الضحايا مهددة بأن تذوب في ضجيج الحياة اليومية. وبينما تنتظر عشرات الأسر المأوى، يبقى السؤال عالقًا: هل تتحرّك الدولة لتكسر دائرة الانهيارات قبل أن يبتلع الحطام أرواحًا جديدة؟

لا تقتصر أزمة انهيار العقارات المتكررة في مصر على مشكلات فنية أو هندسية فحسب، بل تمثل – بحسب متخصصين – أزمة مركبة ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية، تكشف عن اختلالات عميقة في سياسات الإسكان والرقابة المحلية.

ويؤكد الاستشاري الهندسي إسلام أحمد أن الكارثة الحقيقية تكمن في غياب بدائل سكنية آمنة وميسورة التكلفة للفئات محدودة الدخل، قائلاً: "الطلب المتزايد على السكن في المدن الكبرى لا يُقابله عرض حكومي مناسب، مما يدفع كثيرين للقبول بالإقامة في مبانٍ مخالفة أو متهالكة، لأنها الخيار الوحيد المتاح ماليًا".

ويضيف أن الأزمة لا تنفصل عن ضعف أجهزة الرقابة في الأحياء، و"تورط بعض الموظفين في تسهيل المخالفات مقابل منافع مادية، ما سمح بتفشي ظاهرة البناء غير المرخص كالنار في الهشيم". ولفت إلى أن "قانون التصالح في مخالفات البناء، الذي ضخّ مليارات الجنيهات إلى خزينة الدولة، كان بمثابة تقنين لمبانٍ خطرة، وأضفى شعورًا زائفًا بالأمان لدى سكانها".

 

استجابات حكومية موسمية.. بلا حلول جذرية

وتتكرر الاستجابة الرسمية مع كل حادثة انهيار: تهرع فرق الحماية المدنية، تتشكّل لجنة هندسية لمعاينة العقارات المتضررة، وتصدر توجيهات بصرف تعويضات عاجلة للضحايا وتوفير سكن مؤقت للأسر المشردة. لكن، وفق مراقبين، تبقى هذه الإجراءات مجرد "مسكنات"، في وقت تحتاج فيه الأزمة إلى "عملية جراحية" جذرية في سياسات البناء والتخطيط العمراني.

تقول أم محمد، وهي من ضحايا أحد العقارات المنهارة: "أعطونا شقة بديلة بعيدة عن عملي ومدارس أولادي، والتعويض لا يغطي حتى جزءًا مما خسرناه من أثاث وأجهزة. لم نكن ننتظر تعويضًا.. كنا نريد أن تمنع الدولة الكارثة من الأساس".

 

ما بعد الكارثة.. فراغ تشريعي وتشريد أسري

ويحذّر خبراء من أن التركيز على التعويضات دون معالجة مسببات الانهيارات يعمّق الخلل بدل إصلاحه، مطالبين بوضع خطة وطنية شاملة لإعادة تأهيل العقارات القديمة، وتوفير سكن بديل عادل، ومراجعة قوانين الإيجارات والصيانة، وفرض رقابة صارمة على سوق البناء العشوائي.

وفي غياب هذه الحلول، ستظل عقارات مصر مهددة بالانهيار في أي لحظة، وسكانها بين خيارين أحلاهما مرّ: الموت تحت الأنقاض، أو التشرد فوق الأرض.