في ظل تفاقم الأزمات الصحية وتدهور البنية التحتية للمستشفيات الحكومية، أطلقت وزارة الصحة في حكومة الانقلاب حملة بعنوان "الألف يوم الذهبية"، بالتعاون مع منظمات دولية، لتسليط الضوء على أهمية رعاية الأم والطفل خلال أول ألف يوم من حياة الطفل، وهي الفترة التي تمتد منذ بداية الحمل وحتى سن السنتين، ورغم الأهمية العلمية للمبادرة، يرى مراقبون أن هذه الحملة لا تعدو أن تكون محاولة لتجميل صورة نظام صحي منهار، في وقت يعاني فيه ملايين المصريين من نقص في الخدمات والرعاية الأساسية.
الألف يوم الذهبية.. مبادرة علمية أم غطاء سياسي؟
بحسب تصريحات المتحدث باسم وزارة الصحة بحكومة الانقلاب المصرية في يونيو 2025، فإن 85% من قدرات الطفل الإدراكية والجسدية تتشكل خلال هذه الفترة الحرجة، ما يجعل الاهتمام بالتغذية والرعاية الصحية خلالها بالغ الأهمية، كما أشارت الوزارة إلى "إطلاق حملات توعية" في المحافظات، وتوزيع منشورات على الأسر بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني.
لكن العديد من المتخصصين وصفوا هذه الحملة بأنها "دعائية" و"غير مدعومة بخطط واقعية" في ظل انعدام المقومات الأساسية داخل القطاع الصحي.
تفاصيل الحملة ومراحلها
بدأت المبادرة في 10 محافظات تشمل الإسكندرية، مطروح، سوهاج، أسيوط، قنا، البحيرة، الشرقية، البحر الأحمر، بورسعيد، والأقصر.
وتستهدف المرحلة الثانية تعميم المبادرة على جميع المحافظات بحلول ديسمبر 2025 لضمان وصول الخدمات إلى نطاق أوسع من المستفيدين، كما تسعى وزارة صحة الانقلاب لتوسيع المبادرة إلى القطاع الخاص بهدف تحسين مؤشرات صحة الأم والطفل بشكل شامل
منظومة صحية مشلولة بالأرقام
تُظهر تقارير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء وتقديرات دولية أخرى صورة قاتمة لواقع الصحة في مصر:
- نسبة الإنفاق على الصحة في الموازنة العامة لم تتجاوز 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي خلال 2023–2024، أي أقل من الحد الدستوري البالغ 3%.
- تعاني مصر من نقص حاد في أعداد الأطباء، حيث هاجر أكثر من 65 ألف طبيب مصري منذ 2016 بحسب نقابة الأطباء، وهو ما أدى إلى انهيار منظومة الرعاية الأولية، لا سيما في الريف والصعيد.
- تشير تقديرات اليونيسف إلى أن طفلاً واحداً من كل خمسة في مصر يعاني من التقزم نتيجة سوء التغذية، ما يتعارض تماماً مع أهداف حملة "الألف يوم الذهبية".
شعارات في وجه الانهيار
الدكتور محمد فوزي، أستاذ الصحة العامة بجامعة لندن، وصف الحملة بأنها "إعلامية بامتياز، تُطلق في بلد لا يجد فيه الرُضع حضّانات، ولا تحصل فيه الحوامل على الحد الأدنى من الرعاية"، مشيراً إلى أن "الحديث عن تطوير الطفولة المبكرة بلا بنية تحتية هو بيع للوهم".
أما الدكتورة منار الشاذلي، الخبيرة في سياسات الصحة، فقد صرّحت لموقع "صوت مصر الحر" أن "أي حديث عن طفولة آمنة يجب أن يبدأ بضمان مياه شرب نظيفة وغذاء صحي ورعاية مجانية، وهي عناصر مفقودة في معظم قرى مصر".
رسائل النظام.. تحسين الصورة أمام المانحين
يرى باحثون في مركز "الحرية والدراسات السياسية" أن إطلاق مثل هذه الحملات يتماشى مع نهج النظام المصري منذ انقلاب يوليو 2013، والذي يعتمد على خطاب تنموي موجه للخارج أكثر منه للداخل، إذ تسعى حكومة الانقلاب إلى كسب رضا المؤسسات الدولية والجهات المانحة مثل اليونيسف والبنك الدولي، من خلال إظهار اهتمامها بالفئات الضعيفة، رغم أن الواقع يشير إلى تقليص مستمر في دعم الصحة والتعليم.
وبحسب وثيقة رسمية مسربة في أبريل 2025، فقد تم تخفيض مخصصات دعم الأمومة والطفولة بنسبة 22% مقارنة بالعام السابق، وهو ما يناقض تمامًا مضمون الحملة الأخيرة.
تداعيات على المواطن.. بين الإهمال والعجز
تواجه الأسر المصرية، خصوصاً في المناطق الريفية والمهمّشة، صعوبات يومية في الحصول على الحد الأدنى من الخدمات الصحية:
- انعدام المتابعة الطبية المنتظمة للحوامل في أكثر من 60% من المراكز الصحية بالقُرى، بحسب تقارير صادرة عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
- ارتفاع أسعار مكملات الحديد والكالسيوم، ووصولها في بعض الصيدليات إلى 200 جنيه للعلبة الواحدة، ما يجعلها بعيدة عن متناول ملايين النساء.
- تسجيل نحو 30 ألف حالة وفاة سنويًا للأطفال دون سن الخامسة، وهي نسبة مرتفعة مقارنة بدول ذات دخل مماثل.
إصلاح حقيقي أم تسويق زائف؟
رغم وجاهة التوجه النظري لحملة "الألف يوم الذهبية"، إلا أن افتقار النظام للشفافية والإرادة السياسية الفعلية في إنقاذ قطاع الصحة يُفرغ مثل هذه المبادرات من مضمونها، فبدلاً من التركيز على الدعاية، تحتاج مصر إلى إعادة هيكلة شاملة للقطاع الصحي، وتحسين ظروف الأطباء، وزيادة مخصصات الرعاية الأولية، قبل إطلاق شعارات رنانة لا يشعر المواطن بجدواها.
وفي ظل حكومة تُكرّس ميزانيتها لصالح مشاريع ترفيهية وقصور رئاسية، يبقى مصير الطفل المصري مرهوناً بالمساعدات الدولية والجهود الفردية، لا باستراتيجية وطنية حقيقية تعترف بالأزمات وتعالج جذورها.