في واقعة أثارت غضب سكان محافظة سوهاج، تعرض ساتر ترابي بمحطة الصرف الصحي في أحد نجوع مركز البلينا لانهيار مفاجئ، ما أدى إلى تسرب كميات كبيرة من المياه الملوثة، وغرق عشرات المنازل وتشريد العائلات، وسط صمت رسمي وتجاهل إعلامي من القنوات الحكومية.

بحسب شهادات الأهالي المصورة التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي منذ منتصف يونيو 2025، فإن المياه تسربت من الساتر الذي يفترض به أن يحمي قرية “نجع الزواتنة” من أخطار مياه الصرف، بعد أن تعرض للتآكل والانهيار بسبب ضعف البنية وسوء الصيانة.

هذا التقرير يستعرض تفاصيل الساتر الترابي، خلفيات إنشائه، ميزانيته، أسباب انهياره، والتداعيات الاجتماعية والبيئية، مع عرض آراء سياسيين وأكاديميين معارضين لحكم الانقلاب بقيادة عبد الفتاح السيسي.

 

متى أنشئ الساتر وما ميزانيته؟

تفيد وثائق محلية وتقارير هندسية أن الساتر الترابي تم إنشاؤه عام2021 كجزء من مشروع دعم منظومة الصرف الصحي في قرى مركز البلينا، بتمويل من خطة وزارة الإسكان والمجتمعات العمرانية، ضمن ما يعرف بمبادرة "حياة كريمة"، وبلغت ميزانيته حينها نحو 7.3 مليون جنيه، وفق تقرير صادر عن الجهاز التنفيذي لمشروعات الصرف الصحي بالوزارة.

 

تفاصيل الساتر الترابي ومشكلته

الساتر الترابي هو حاجز ترابي أنشئ منذ سنوات ضمن مشروع لتأمين محطة الصرف الصحي في نجوع سوهاج، بهدف حماية الأراضي والمنازل المجاورة من تسرب مياه الصرف.

وفق مصادر محلية، تم بناء الساتر بميزانية محدودة جداً لا تتناسب مع حجم المشروع، حيث بلغت تكلفة إنشائه أقل من 2 مليون جنيه، وهو مبلغ زهيد مقارنة بحجم الأضرار التي سبّبها انهياره.

في بداية 2025، تعرض الساتر لانكسار نتيجة سوء التصميم وعدم صيانة دورية، ما أدى إلى تسرب مياه الصرف الصحي إلى منازل الأهالي، مخلفاً أضراراً مادية وصحية كبيرة، وأثار حالة من الغضب بين السكان الذين يطالبون بحل سريع وجذري للمشكلة.

 

الأسباب والتداعيات

انهيار الساتر الترابي يعكس الإهمال الحكومي المزمن في إدارة المشاريع التنموية والخدمية في المحافظات، خاصة في الصعيد، حيث تتركز الفقر وقلة الخدمات. كما أن الميزانيات المخصصة للمشاريع غالباً ما تُصرف بشكل غير شفاف، مع وجود فساد إداري ينعكس سلباً على جودة التنفيذ.

قال الدكتور محمد عبد المنعم، عضو مجلس شورى سابق وناشط سياسي معارض، إن "ما حدث في سوهاج هو نموذج مصغر لما تعانيه المحافظات من إهمال متعمد من حكومة الانقلاب، التي تركز على مشاريع ضخمة في العاصمة وتترك الصعيد يعاني من أبسط الخدمات".

وأضاف أن "هذا الإهمال هو نتيجة لسياسات اقتصادية فاشلة تركز على تقليل الإنفاق على الخدمات الأساسية، بينما تتضخم ميزانيات الأمن والقمع".

يرى الدكتور أحمد يوسف، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن "حكم السيسي يعتمد على نموذج استبدادي يهمش المحافظات ويعزز الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، مما يؤدي إلى تفاقم الأزمات المحلية مثل ما حدث في سوهاج".

ويضيف أن "غياب المشاركة المجتمعية في اتخاذ القرارات التنموية ينعكس سلباً على جودة المشاريع واستدامتها".

أما الدكتورة منى عبد السلام، خبيرة في التنمية المحلية، فتشير إلى أن "الميزانيات المخصصة للمحافظات في مصر لا تتجاوز 15% من الميزانية العامة، وهو رقم لا يكفي لتغطية الاحتياجات الأساسية، خاصة في مناطق مثل الصعيد".

وتؤكد أن "غياب الرقابة والمساءلة يزيد من فرص الفساد ويقلل من فعالية المشاريع التنموية".

تقارير حقوقية محلية ودولية وثقت تراجع مستوى الخدمات في المحافظات المصرية، مع تسجيل ارتفاع شكاوى المواطنين من سوء إدارة مشاريع البنية التحتية. بحسب تقرير صادر عن مركز أبحاث مستقل في 2024، فإن 40% من مشاريع الصرف الصحي في الصعيد تعاني من مشاكل فنية وإدارية، مما يؤدي إلى أضرار بيئية وصحية متكررة.

كما تشير بيانات رسمية غير معلنة إلى أن ميزانية مشاريع الصرف الصحي في محافظات الصعيد لا تتجاوز 10% من إجمالي ميزانية الدولة المخصصة للخدمات العامة، في حين أن نسبة السكان في هذه المحافظات تزيد عن 30% من سكان مصر.

الأخطر في هذه الكارثة ليس فقط الخسائر المادية، بل التداعيات الصحية والبيئية، فقد أكدت مصادر طبية في مستشفى البلينا العام تسجيل أكثر من 60 حالة إصابة بأمراض جلدية والتهابات معوية بين أطفال القرية بسبب التلوث المباشر، بينما لم تتدخل وزارة الصحة بأي حملات تطهير أو دعم حتى كتابة هذا التقرير.

ويخشى السكان من انتشار الأوبئة، خاصة في ظل ارتفاع درجات الحرارة وضعف الخدمات الطبية، وقد وصف أحد الأهالي الوضع قائلاً: "نحن في عزلة تامة.. لا كهرباء، لا ماء نقي، ولا مسؤول حضر ليرى ما حل بنا".

من الناحية البيئية، أدى تسرب مياه الصرف إلى تلوث التربة والمياه الجوفية، مما يهدد صحة السكان ويزيد من خطر انتشار الأمراض.

اجتماعياً، تسبب الغرق في منازل الأهالي في نزوح بعض العائلات مؤقتاً، ما زاد من معاناة الفقراء في المنطقة.

قال أحد سكان المنطقة، في فيديو متداول على فيسبوك، إن "البيوت غرقت والمياه وصلت للغرف، وكل ممتلكاتنا تلفت، ولا أحد من المسؤولين تحرك".

وأضاف آخر: "نعيش دون كهرباء منذ يومين، والأطفال مرضى، والمحافظة تتجاهلنا".

في الوقت الذي يؤكد فيه المسؤولون المحليون أن ما جرى هو "حادث طارئ"، فما جرى هو نتيجة متوقعة لفشل المنظومة التنفيذية، فقد نشر مركز "نحو العدالة" تقريرًا ميدانيًا في مارس 2025 أشار فيه إلى أن أكثر من 40% من منشآت البنية التحتية في القرى الجنوبية تعاني من الإهمال أو التنفيذ غير المطابق للمواصفات.

 

أين الحكومة؟ وأين التنمية؟

رغم ترويج نظام الانقلاب المصري، بقيادة عبد الفتاح السيسي، لمبادرة "حياة كريمة" كأكبر مشروع تنموي في تاريخ مصر الريفي، فإن الكوارث المتكررة في قرى سوهاج والصعيد تكشف ضعف المتابعة وغياب الشفافية، وقد بلغت تكلفة المرحلة الأولى من "حياة كريمة" نحو200  مليار جنيه، وفق تصريحات حكومة الانقلاب الرسمية، لكن الكثير من المشاريع في الصعيد لا تزال غير مكتملة أو متهالكة.

الدكتور محمد فوزي، أستاذ هندسة البنية التحتية بجامعة عين شمس، أشار في تصريحات له لصحيفة "مدى مصر" إلى أن "العديد من المشاريع المنفذة في الصعيد تنفذها شركات تابعة للجيش أو بالمناقصات بالأمر المباشر، وهو ما يغلق باب المنافسة ويؤدي إلى تكرار الأخطاء الفنية والفساد المالي".

 

"التنمية" مجرد واجهة

يقول الباحث الاقتصادي أحمد عبد الجواد إن ما حدث في نجع الزواتنة "ليس حادثًا منفصلًا بل هو انعكاس لسياسات مركزية تقوم على مبدأ إرضاء القيادة السياسية بتقارير إنجازات وهمية، دون رقابة برلمانية حقيقية أو مساءلة من أجهزة الدولة".

ويضيف عبد الجواد: "حين تنهار بنية تحتية تم إنشاؤها منذ أقل من أربع سنوات فقط، فإننا أمام إهدار للمال العام وغياب كامل للمحاسبة، وهذا هو جوهر الفشل في إدارة المشاريع في عهد السيسي".

 

مشهد متكرر في جمهورية "اللقطة"

ما جرى في نجع الزواتنة ليس حادثًا استثنائيًا، بل هو تجسيد لفلسفة الحكم في مصر ما بعد الانقلاب لقطات تنموية على الورق والإعلام، ومشاريع تُنفذ بميزانيات ضخمة دون متابعة حقيقية، ومواطن مهمش يدفع الثمن في النهاية.