ما من عبادةٍ تُزهر في القلب نورًا، وتُرقّيه في مراتب القُرب من الله، كالحجّ، ذاك الركن الذي تفتّحت له الأرواح شوقًا، وانسابت إليه القلوب رجاءً. فهو بعد الإيمان بالله والجهاد في سبيله، أعظم ما يُتقرب به إلى الرب، كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، حين سُئل نبيّ الهدى ﷺ: أيّ العمل أفضل؟ فأجاب: "إيمان بالله"، ثم "جهاد في سبيل الله"، ثم قال ثالثًا: "حج مبرور".
وما اختار رسول الله ﷺ أن يضع الحج بعد الإيمان والجهاد إلا لِما فيه من معانٍ تُلامس روح الإسلام، وما فيه من تعبٍ يُصفّي النوايا، ويطهّر القلوب، ويجعل الجسد يسير على صراطٍ من خشوعٍ وطاعة.
بل إن الحجّ، في بعض أحاديثه ﷺ، جُعل جهادًا خاصًا، لا يُراق فيه دم، ولا تُرفع فيه سيوف. عن الحُصين بن علي، أن رجلاً شكا للنبي ﷺ ضعف بدنه وجُبنه، فقال له الحبيب المصطفى: "ألا أدلك على جهادٍ لا شوكة فيه؟" قال: "بلى يا رسول الله". قال: "الحج".
لكنّ للحجّ ميقاتًا لا يُدرك في كل حين، ولبيت الله الحرام طريقًا لا يَسهُل على الجميع، فهو يحتاج إلى جهد ومال وتفرّغٍ لا يملكه كل مسلم.
وهنا تتجلّى رحمة الله، إذ فَتح أبوابًا من الخير في كل بقعة، وشرع لعباده أعمالًا تضاهي أجر الحج والعمرة، يُدركها المؤمن من مكانه، دون أن يرتحل، ومن ذلك:
صلاة الفريضة في المسجد
عن النبي ﷺ قال: من خرج من بيته متطهرًا إلى صلاة مكتوبة، فأجره كأجر الحاج المحرم.
صلاة الفجر في جماعة وذكر الله حتى طلوع الشمس وصلاة ركعتين
صلاة الفجر، لها مزية على بقية الصلوات، قال تعالى {وقرآن الفجر، إن قرآن الفجر، كان مشهودا} (الإسراء 78).
والوقت بعد صلاة الفجر، إلى طلوع الشمس، وقت مبارك، وهو الذي أمر الأنبياء بالإكثار من ذكر الله فيه، والعناية به.
فمن خرج من بيته إلى صلاة الصبح، ثم جلس يعمر هذا الوقت الفضيل، بذكر الله عز وجل، ثم صلى ركعتين جعله النبي صلى الله عليه وسلم، كالحاج المعتمر.
ففي سنن الترمذي، من حديث أنس، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من صلى الصبح في جماعة، ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين، فله أجر حج وعمرة، تامة، تامة، تامة.
الخروج لصلاة الضحى
عن النبي ﷺ قال: من خرج إلى تسبيح الضحى (صلاة الضحى) لا ينصبه إلا إياه، فأجره كأجر المعتمر.
الأذكار عقب الصلوات المفروضة
وهناك فرصة أخرى، ينافس فيها المسلم، وهو في بلده، الحاج والمعتمر، بل والمجاهد، والمتصدق.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، جاء الفقراء إلى النبي ﷺ، فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العُلا، والنعيم المقيم يُصلّون كما نُصلّي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال يحجّون بها، ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدّقون، قال: ألا أُحدِّثكم إن أخذتم أدركتم مَن سبقكم ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خير مَن أنتم بين ظهرانيه إلا مَن عمل مثله تُسبِّحون وتَحمَدون وتُكبِّرون خلف كلّ صلاة ثلاثا وثلاثين.
وفي مسند الإمام أحمد، من حديث أبي الدرداء، رضي الله عنه، أن النبي، ﷺ، جاءه الفقراء، وقالوا: يا رسول الله، ذهب الأغنياء بالأجر، يحجون، ولا نحج، ويجاهدون، ولا نجاهد، فقال النبي، ﷺ: أولا أدلكم على شيء، إن أخذتم به، جئتم بأفضل مما جاؤوا به؟ تكبرون أربعا وثلاثين، وتسبحون ثلاثا وثلاثين، وتحمدون ثلاثا وثلاثين، في دبر كل صلاة مكتوبة.
حضور مجالس العلم
عن أبي أمامة، عن النبي ﷺ قال: من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرًا، أو يعلمه، كان له كأجر حاج تامًّا حجته.
شهود صلاة الجمعة والتبكير إليها
الذي يذهب إلى صلاة الجمعة، بنية تعلم الخير، ينقلب من منها بأجر حجة.
قال الحافظ ابن رجب، رحمه الله، في كتابه لطائف المعارف: الجمعة تعدل حجة تطوع. وقال سعيد بن المسيب، رحمه الله: شهود الجمعة، أحب إلي، من حجة النافلة.
وجعل رسول الله، ﷺ، المبكر إلى صلاة الجمعة، كأنه أهدى هديا، إلى بيت الله الحرام، فعن النبي ﷺ قال: من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الثانية فكأنما قرب بقرة.
بر الوالدين
عن أنس، قال: أتى رجلٌ رسولَ الله ﷺ، فقال: إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه، قال: هل بقيَ من والديك أحد؟ قال: أمي، قال: فأبْلِ الله في برها، فإذا فعلت ذلك؛ فأنت حاج ومعتمر ومجاهد، فإذا رضيَت عنك أمك، فاتقِ الله وبرَّها.
قضاء حواج الناس
روى الإمام البيهقي بسنده عن علي بن حسين قال: خرج الحسن يطوف بالكعبة، فقام إليه رجل فقال: يا أبا محمد، اذهب معي في حاجة فلان، فترك الطواف وذهب معه، فلما ذهب، قام إليه رجل حاسد للرجل الذي ذهب معه، فقال: يا أبا محمد، تركت الطواف وذهبت معه؟ قال: فقال له الحسن: وكيف لا أذهب معه ورسول الله قال: من ذهب في أمر لأخيه المسلم، فقُضيت حاجته، كُتبت له حجة وعمرة، وإن لم يُقضَ كُتبت له عمرة، فقد اكتسبت حجة وعمرة، ورجعت إلى طوافي.
قال العلماء إن الأعمال التي تعدل الحج إنما تكون في الجزاء، لا في الإجزاء، فحج الفرض لا يسقط عن القادر عليه إذا انتفتِ الموانع من مرض أو وباء أو عدم قدرة.