"بقالي 5 سنين قاعد في البيت.. تعبت من قعدتي ومن نفسي، وأتعبت كل من حولي"، بهذه الكلمات المؤلمة، دوّن الطبيب محمود سامي قنيبر على حسابه في فيسبوك صرخة خافتة، لكنها وصلت أخيرًا، بعد سنوات من الصمت الرسمي، وانتظار مرير في الظل. الطبيب الشاب الذي فقد بصره وهو يعالج مرضى كورونا في مستشفى عزل بلطيم، يعود أخيرًا إلى العمل، لكن لا شيء يمكنه تعويض ما خسره. في أبريل الجاري، أعلنت وزارة الصحة تعيين قنيبر في صندوق التعويض عن مخاطر المهن الطبية، على أن يتولى رعاية أسر الأطباء الذين قضوا أو تضرروا نفسيًا وماديًا جراء أداء واجبهم المهني. خطوة حملت في طيّاتها بعض التقدير، لكنها جاءت متأخرة خمس سنوات كاملة، عاشها قنيبر في عزلة تامة، وهو أحد أوائل من دُفعوا لأقصى الخطوط الأمامية في مواجهة الوباء القاتل. فقدان البصر في معركة بلا درع بدأت مأساة قنيبر في مايو 2020، خلال موجة كورونا الأولى، حين تطوّع للعمل في مستشفى العزل ببلطيم. وعلى مدار سبعة أيام متواصلة، ظل يُعالج المصابين في وحدة الحميات، بلا راحة أو دعم نفسي كافٍ. ومع اشتداد الإجهاد، استيقظ صباح يوم ليكتشف أنه فقد بصره بالكامل، في ظل طيّ التجاهل المؤسسي بعدها، ولم تُفعّل أي آلية حقيقية لإعادة دمجه في وظيفة تناسب حالته، كما لم تُصرف له تعويضات مجزية، رغم أن قضيته كانت رمزًا مبكرًا لتضحيات الأطقم الطبية في الجائحة. صرخة على فيسبوك أيقظت الحكومة لم تكن استغاثاته المتكررة للجهات المسؤولة كافية على مدار سنوات، وعدٌ وراء وعد، دون تنفيذ، حتى كتب منشوره الشهير: "أنا عاوز أشتغل"، ليُحرّك موجة تعاطف على مواقع التواصل، دفعت وزارة الصحة إلى التواصل معه مجددًا، بعد 5 سنوات من التجاهل، وتم الاتفاق على تعيينه رسميًا في صندوق التعويض. لكنه رغم الامتنان، يُشير إلى مشكلة مستمرة: "العاصمة الإدارية الجديدة بعيدة جدًا، ودي كانت من الأسباب اللي عطلت تشغيلهم ليّ في الوزارة.. حتى ده مش سهل". تكريم معنوي.. دون نظام دعم مستدام قصة قنيبر تكشف الخلل الأعمق: غياب منظومة شاملة لحماية العاملين في القطاع الطبي، خاصة المصابين بالعجز الكلي أو الجزئي. فـقانون صندوق مخاطر المهن الطبية (184 لسنة 2020)، ينص على صرف تعويض "مرة واحدة"، لا معاش شهري، ما يعني أن من يُضحّون بأجسادهم لأجل الوطن، لا يملكون ضمانًا اقتصاديًا طويل الأمد. ورغم إعلان وزارة الصحة مؤخرًا عن صرف 480 مليون جنيه منذ إنشاء الصندوق، منها 75 مليونًا فقط كتعويضات عن حالات الوفاة، فإن هذه المبالغ تُثير تساؤلات عن كفايتها وعدالتها، في ظل تسجيل ما يقرب من 500 وفاة بين الأطباء خلال الجائحة. المبادرة المصرية: مطالب لم تجد آذانًا في مايو 2021، دعت "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" الحكومة لتحسين بيئة عمل الأطباء وتعويضهم وأسرهم تعويضًا عادلًا، لكن غياب سياسات حقيقية مستدامة، جعل مثل هذه المطالب تُواجه بتجاهل ممنهج. "العين لا تُعوّض.. لكن الكرامة تُردّ" الآن، يستعد قنيبر للعودة إلى العمل، لكن هذه العودة لا تُخفي جرحًا مفتوحًا؛ جرح فقدان البصر، وجرح نكران الجميل، هو لا يُريد شفقة، ولا موائد تكريم رمزية، بل مكانًا يليق بتضحياته. وقد نال أخيرًا ذلك المكان، لكن بعد أن فقد الكثير، وبعد أن صار رمزا للصبر لا يجب أن يتكرر.