في تطور خطير يكشف عن حجم العجز الرسمي في إدارة ملف المياه، أعلن الدكتور عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، عن رصد تفريغ مفاجئ وغير معتاد لمياه سد النهضة الإثيوبي بكميات هائلة بلغت 750 مليون متر مكعب لليوم الثالث على التوالي. هذا الإجراء الإثيوبي الأحادي، الذي وصفه شراقي بـ"غير المعتاد" في هذا التوقيت، تسبب في كارثة مباشرة للسودان الشقيق، حيث غمرت المياه الأراضي الزراعية وهددت بضياع الموسم الزراعي، وسط تحذيرات متأخرة للسكان.

 

وبينما تغرق الأراضي السودانية وتعيش الخرطوم حالة من "التخبط" المائي، تكتفي حكومة الانقلاب في القاهرة بالتطمينات المعتادة عن قدرة السد العالي على استيعاب الصدمات، متجاهلة الجوهر الحقيقي للأزمة: وهو أن إثيوبيا باتت تتحكم منفردة في "محبس النيل"، تفتح وتغلق متى تشاء، دون أي اعتبار لدول المصب أو الاتفاقيات الدولية، مما يضع الأمن المائي المصري والسوداني في مهب الريح.

 

السودان يدفع الثمن.. وموسم زراعي في مهب الريح

 

وفقاً لتصريحات شراقي لبرنامج "حضرة المواطن"، فإن السودان هو المتضرر الأكبر والمباشر من هذا التفريغ المفاجئ. فقد أدى تدفق المياه بكميات ضخمة إلى حالة فيضان غير موسمية غمرت الأراضي الزراعية، مما يهدد بضياع الموسم الزراعي الذي يبدأ عادة في يوليو وأغسطس.

 

هذا "التخبط" الذي أشار إليه شراقي ليس مجرد ارتباك إداري، بل هو نتيجة مباشرة لغياب التنسيق الثلاثي، وهو ما يعني أن المزارع السوداني يدفع ثمن الفشل السياسي من قوت يومه. تحذير السكان قبل 5 أيام فقط من الفيضان يكشف عن هشاشة نظام الإنذار المبكر وغياب المعلومة الدقيقة التي كان يجب أن توفرها آلية تنسيق مشتركة، لو كانت موجودة وفعالة.

 

السد العالي.. "مسكن" مؤقت لأزمة وجودية

 

رغم تأكيد شراقي أن مصر لم تتضرر "في الوقت الحالي" بفضل قدرة السد العالي وبحيرة ناصر على استيعاب المياه الواردة، إلا أن هذا التصريح يحمل في طياته إدانة لسياسة "الاعتماد على المخزون" دون حل جذري للأزمة. فالسد العالي صُمم لحماية مصر، لكنه لا يبرر الصمت أو العجز أمام تحكم طرف خارجي في تدفقات النهر.

 

الاعتماد المستمر على السد العالي كـ"مصدات للصدمات" يخفي حقيقة مرعبة: وهي أن القرار المائي لم يعد في يد القاهرة. فاليوم تفرغ إثيوبيا المياه وتستقبلها بحيرة ناصر، وغداً قد تحجزها وتجفف النهر، وفي الحالتين تظل مصر في مقعد "المتلقي" لردود الأفعال، عاجزة عن التأثير في القرار الإثيوبي أو فرض قواعد تشغيل ملزمة تضمن استدامة التدفقات.

 

غياب التنسيق.. "غموض" يهدد المستقبل

 

شدد شراقي في حديثه على النقطة الأخطر في الأزمة: غياب آلية التنسيق ومعرفة مواعيد فتح وغلق البوابات. هذا "الغموض" في المعلومات الذي حذر منه أستاذ الجيولوجيا هو العدو الأول للأمن المائي. فبدون تبادل بيانات يومي وشفاف، تتحول إدارة الموارد المائية في مصر والسودان إلى عملية "تخمين" ومقامرة بمستقبل الشعوب.

 

إن استمرار الوضع الحالي، حيث تتصرف أديس أبابا كمالك حصري للنيل الأزرق، وتكتفي حكومة الانقلاب بمشاهدة المياه تتدفق أو تنقطع، يمثل فشلاً ذريعاً في حماية الأمن القومي. فالمسألة ليست مجرد "تفريغ مياه" اليوم، بل هي تكريس لواقع جديد تكون فيه إثيوبيا هي "السيد" المتحكم في شريان الحياة، بينما تكتفي دول المصب بإحصاء الخسائر أو الاحتماء بمخزون قد لا يدوم للأبد.