في مشهد بات مكرراً ومحفوظاً عن ظهر قلب، وقف رئيس وزراء النظام، مصطفى مدبولي، اليوم الثلاثاء، في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، ليرعى توقيع عقود لثلاثة مشروعات صينية جديدة باستثمارات معلنة تبلغ 1.15 مليار دولار.
الصور الرسمية والابتسامات العريضة للمسؤولين حاولت تصدير مشهد "الإنجاز" و"الثقة الدولية"، لكن القراءة المتأنية لتفاصيل العقود، ومقارنتها بالواقع الاقتصادي المأزوم الذي يعيشه المصريون في نهاية 2025، تكشف عن "شو إعلامي" جديد يهدف لبيع الوهم، وتسكين الرأي العام بوعود آجلة الدفع لن يرى المواطن أثرها إلا بعد سنوات، هذا إن تحققت.
تفاصيل "الصفقة".. وعود مؤجلة لعام 2030
بحسب البيانات الرسمية، التي احتفى بها إعلام النظام، تتوزع الاستثمارات "الموعودة" على ثلاثة قطاعات، بجدول زمني يثير الريبة حول جدوى الإعلان عنه الآن سوى لأغراض الدعاية السياسية:
1. مشروع البوليستر (الأضخم والأبعد): باستثمارات 800 مليون دولار لإنتاج 1.08 مليون طن سنوياً. الكارثة تكمن في التوقيت؛ فالمشروع لن يبدأ إنشاؤه إلا في مايو 2026، وتشغيله الفعلي في الربع الأخير من 2027، واكتماله في 2030. أي أن الحكومة تبيع للمصريين اليوم "سمكاً في ماء" لن يروه قبل 5 سنوات.
2. مشروع الإطارات: استثمارات بـ 190 مليون دولار لإنتاج إطارات الشاحنات والسيارات. ورغم ضخامة الرقم المستهدف (5.5 مليون إطار)، إلا أن البدء في أبريل 2026 يطرح تساؤلات حول سبب تأخير التنفيذ في دولة تدعي أنها "جاذبة للاستثمار" فوراً.
3. مشروع المنتجات الصحية: استثمار بـ 160 مليون دولار لإنتاج حفاضات ومناديل. وهو المشروع الذي يسوق له النظام كإنجاز استراتيجي، بينما هو في حقيقته صناعات استهلاكية خفيفة لا تمثل نقلة تكنولوجية حقيقية.
"استثمارات معزولة لا تطعم جائعاً"
في تعليقها على حمى التوقيعات التي تنتهجها الحكومة، ترى الدكتورة عالية المهدي، العميد الأسبق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، أن الأرقام المعلنة (1.15 مليار دولار) غالباً ما تكون "أرقاماً دعائية" لا تعكس التدفقات النقدية الحقيقية التي تدخل الخزانة العامة.
وتشير المهدي إلى أن "مشكلة هذه المشروعات في المناطق الاقتصادية الخاصة أنها تعمل كجزر منعزلة؛ تحصل الشركات الصينية على الأرض بأسعار بخسة، وتتمتع بإعفاءات ضريبية وجمركية واسعة، وتستفيد من العمالة الرخيصة وموقع مصر للتصدير لأوروبا بدون جمارك، بينما العائد على المواطن المصري والناتج القومي يكون ضئيلاً للغاية". وتضيف بحدة: "الحكومة تتحدث عن سد فجوة الاستيراد في 2030، لكن المواطن لا يجد دواءه أو طعامه بأسعار معقولة اليوم. هذه العقود لا تحل أزمة السيولة الدولارية الحالية، بل قد تزيد من استنزاف الموارد إذا لم تكن هناك ضوابط صارمة لتحويل الأرباح للخارج لاحقاً".
"متلازمة الإعلان قبل الإنجاز.. وأين ذهبت الـ 5 مليارات؟"
من جانبه، يفكك الخبير الاقتصادي والبرلماني السابق الدكتور محمد فؤاد لغة الأرقام التي ساقها وليد جمال الدين، رئيس الهيئة الاقتصادية، حين تفاخر بجذب 5.1 مليار دولار في نصف عام.
يقول فؤاد: "هناك فرق شاسع بين (مذكرات التفاهم) و(العقود النهائية) و(التنفيذ الفعلي). حكومة مدبولي بارعة في الاحتفال بتوقيع العقود، لكننا نادراً ما نرى كشف حساب ختامي لما تم تنفيذه من مليارات المؤتمرات السابقة". ويحذر فؤاد من خطورة الاعتماد المفرط على الاستثمار الأجنبي المباشر في قطاعات تستهلك طاقة وموارد مائية دون قيمة مضافة تكنولوجية عالية، واصفاً ما يحدث بأنه "تأجير لمقدرات الدولة للصين لتكون مصنعاً خلفياً لمنتجاتها الهاربة من الجمارك الغربية، وليست شراكة ندية". ويختتم: "الإعلان عن مشروعات تبدأ في 2026 و2027 هو محاولة بائسة للقول إن (المستقبل أفضل)، للتعمية على الحاضر الكارثي الذي تسببت فيه سياسات الاقتراض والإنفاق غير الرشيد".
"بروباغندا النظام لتجميل وجه الفشل"
وبنبرة سياسية لا تقل حدة، يرى الدكتور مراد علي أن توقيت هذه الإعلانات ليس بريئاً. "النظام لا يملك شيئاً يقدمه للمصريين سوى الوعود والأحلام المؤجلة. مصطفى مدبولي يقف ليعلن عن (حفاضات ومناديل) باستثمارات صينية وكأنها فتح مبين، بينما المصانع المصرية الوطنية تغلق أبوابها بسبب الضرائب والبيروقراطية وتغول الدولة".
ويؤكد علي أن "هذه المشروعات هي جزء من حملة علاقات عامة (PR) لمحاولة استعادة الثقة المفقودة دولياً ومحلياً، ولإرسال رسالة مفادها أن مصر ما زالت وجهة استثمارية، رغم أن التقارير الدولية وتصنيف مصر الائتماني يقولون عكس ذلك". ويضيف: "الحديث عن توفير 3000 فرصة عمل في مشروع بـ 800 مليون دولار يكشف عن خلل في كثافة التشغيل، فالمليارات تنفق على الآلات والمعدات المستوردة من الصين، بينما الفتات يذهب للعمالة المصرية".
الخلاصة: أرقام في الهواء
بينما يهلل إعلام النظام لـ 1.15 مليار دولار "ستأتي"، يواصل الدين الخارجي التهام أكثر من نصف الموازنة العامة، ويستمر الجنيه في النزيف. تبدو حكومة مدبولي، ومن خلفها النظام، كمن يحاول ردم فجوة في جدار منهار باستخدام ملصقات دعائية ملونة؛ قد تستر العيوب قليلاً، لكنها لن تمنع الانهيار القادم.

