في تطور دبلوماسي لافت قد يشكل نقطة تحول في مسار الصراع الدائر في الشرق الأوسط، شهدت مدينة ميامي بولاية فلوريدا الأمريكية حراكاً سياسياً مكثفاً جمع ممثلي الوساطة الرباعية (الولايات المتحدة، قطر، مصر، وتركيا). وقد توجت هذه الاجتماعات الماراثونية بتصريحات متفائلة لوزير الخارجية التركي هاكان فيدان، كشف خلالها عن التوصل إلى "تفاهمات مبشرة" بشأن الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وذلك بعد إنجاز استحقاقات المرحلة الأولى بالكامل.
هذا الاجتماع، الذي وصفه فيدان بأنه "الأهم منذ اجتماع شرم الشيخ" الذي أسس لوقف إطلاق النار، يأتي في توقيت حرج للغاية، حيث تقف المنطقة على مفترق طرق بين تثبيت الهدنة والمضي قدماً نحو حلول مستدامة، وبين الانزلاق مجدداً إلى مربع العنف الشامل نتيجة الخروقات الميدانية. وقد عكست التصريحات الصادرة عقب الاجتماع توافقاً نادراً بين الوسطاء الأربعة على ضرورة حماية المسار التفاوضي من الانهيار، مع توجيه رسائل تحذيرية واضحة بشأن السلوك الإسرائيلي الذي يهدد بنسف الجهود الدبلوماسية.
#الولايات_المتحدة و #قطر و #مصر و #تركيا تصدر بيانا مشتركًا بعد اجتماعات مكثفة في ميامي.. التفاصيل مع مراسلة الجزيرة وجد وقفي pic.twitter.com/HjgjFv579z
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) December 21, 2025
من "تبادل الجثامين" إلى استحقاقات السياسة.. عقبة الخروقات الإسرائيلية
أوضح وزير الخارجية التركي أن الانتقال إلى مناقشة "المرحلة الثانية" لم يأتِ من فراغ، بل جاء استناداً إلى اكتمال بنود المرحلة الأولى فعلياً، والتي توجت بتسليم آخر جثة من الرهائن، مما فتح الباب أمام الحديث عن المعايير السياسية والأمنية للمرحلة المقبلة. ومع ذلك، لم يخفِ فيدان القلق الذي ساد أروقة اجتماعات ميامي، حيث كان "الهاجس الأمني" حاضراً بقوة.
وفي لغة اتسمت بالحدة والصراحة، نقل فيدان توافق المجتمعين على أن الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة لوقف إطلاق النار لا تمثل مجرد حوادث عرضية، بل تشكل خطراً وجودياً على خطة السلام برمتها. وأكد أن الجانب التركي شدد بوضوح، ووافقه في ذلك بقية الأطراف، على أن هذه الممارسات تجعل عملية الانتقال إلى المرحلة الثانية "صعبة بشكل لا يصدق".
هذا الإجماع الرباعي على خطورة الخروقات الإسرائيلية يعكس ضيقاً دبلوماسياً من سياسة المراوغة، حيث ناقش الوسطاء بشكل مفصل آليات ملموسة وسبلاً كفيلة بوقف هذه الانتهاكات، لضمان بيئة آمنة تسمح بتنفيذ التفاهمات الجديدة، بدلاً من الدوران في حلقة مفرغة من الفعل ورده.
دبلوماسية "اللمسات الأخيرة".. خارطة طريق لإنقاذ القطاع وإعادة الإعمار
لم تقتصر مباحثات ميامي على الجوانب الأمنية والعسكرية فحسب، بل امتدت لتشمل الشق الإنساني والاقتصادي الذي يمثل عصب الحياة لسكان القطاع المنكوب. وكشف فيدان أن الاجتماعات، التي استمرت حتى ساعات متأخرة من الليل وتنوعت صيغها بين ثنائية وجماعية، قد تطرقت بشكل جدي إلى "دراسة تمهيدية" حول إعادة إعمار غزة، وهو الملف الذي ظل معطلاً لفترات طويلة.
الحديث عن إعادة الإعمار في هذا التوقيت يحمل دلالات سياسية هامة، إذ يشير إلى رغبة الوسطاء في تحويل الهدنة المؤقتة إلى واقع دائم يسمح بتدفق المساعدات ومواد البناء. ويأتي التركيز على استمرار المشاورات رفيعة المستوى بين الدول الأربع (الولايات المتحدة، مصر، قطر، تركيا) كضمانة لاستمرار الزخم الدبلوماسي، ومحاولة لسد الفجوات التي قد تظهر أثناء التنفيذ.
ويرى المراقبون أن انخراط الولايات المتحدة المباشر في مناقشة تفاصيل إعادة الإعمار والمرحلة الثانية يعطي ثقلاً لهذه التفاهمات، لكنه يضع واشنطن أيضاً أمام مسؤولياتها للضغط على حليفتها إسرائيل للالتزام بمخرجات الاجتماع.
"اللاءات التركية الثلاث".. محددات صارمة لمستقبل غزة السياسي
في خضم الحديث عن الترتيبات المستقبلية، حرص وزير الخارجية التركي على وضع النقاط على الحروف فيما يتعلق برؤية أنقرة لمستقبل القطاع، وهي الرؤية التي طرحت بقوة على طاولة المفاوضات. ولخص فيدان الموقف التركي في ثلاثة معايير أساسية لا تقبل التفاوض، يمكن وصفها بـ"اللاءات الثلاث" أو "المحددات الثلاثة":
1. غزة لأهلها: التأكيد القاطع على أن إدارة القطاع يجب أن تكون فلسطينية خالصة، تدار من قبل سكان غزة أنفسهم، رفضاً لأي سيناريوهات تتعلق بفرض وصاية خارجية أو إدارات عسكرية احتلالية.
2. لا لتقسيم الأرض: الرفض التام لأي مخططات تهدف إلى اقتطاع أجزاء من غزة أو إنشاء مناطق عازلة تقلص مساحة القطاع الجغرافية، وهو ما يقطع الطريق على الأطماع الإسرائيلية في ضم أراضٍ جديدة بحجة الأمن.
3. الأولوية للمواطن الغزي: أن يكون المعيار الحاكم لأي إجراء أو مشروع يتم تنفيذه هو "مصلحة السكان"، مما يعني رفض أي مشاريع تخدم أجندات أمنية إسرائيلية تحت غطاء إنساني.
هذه المحددات التي طرحتها تركيا، وتناغمت معها الرؤى العربية (المصرية والقطرية)، تشكل العمود الفقري للموقف التفاوضي في المرحلة الثانية، وتؤكد أن "تفاهمات ميامي" المبشرة لا تعني فقط وقف صوت المدافع، بل تهدف إلى حماية الهوية السياسية والجغرافية لقطاع غزة في "اليوم التالي" للحرب.
.

