في الوقت الذي تصدر فيه وزارة الخارجية المصرية بياناتها الرسمية بمناسبة اليوم العالمي للمهاجرين، تتناقض الأرقام والوقائع على الأرض مع ادعاءات "الالتزام بمكافحة الهجرة غير الشرعية".
فالحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها هي أن مصر تحولت خلال السنوات العشر الأخيرة إلى واحدة من أكبر مصدري المهاجرين غير الشرعيين في المنطقة، مع تزايد مضطرد في أعداد الضحايا الذين يلقون حتفهم في رحلات الموت عبر البحر المتوسط.
الأرقام الرسمية تتحدث عن نفسها بصوت أعلى من البيانات الدبلوماسية. فقد قفزت أعداد المصريين الذين يحاولون الهجرة غير الشرعية بنسب تتراوح بين 300-400% منذ عام 2015، وفقاً لتقديرات منظمات حقوقية محلية ودولية.
وفي الوقت الذي تتباهى فيه الحكومة بمبادرات "تنمية مهارات الشباب"، يغرق المئات سنوياً في المياه الإقليمية اليونانية والإيطالية، كان آخرهم العشرات الذين لقوا حتفهم قبالة سواحل كريت في نوفمبر الماضي.
الانهيار الاقتصادي: محرك الهجرة غير الشرعية
السياسات الاقتصادية المتبعة منذ 2013 أنتجت كارثة اجتماعية غير مسبوقة. فقد تضاعف معدل الفقر المدقع ثلاث مرات، حيث بلغت نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر الدولي (3.2 دولار يومياً) نحو 30% من إجمالي السكان.
في الوقت نفسه، فقد الجنيه المصري أكثر من 70% من قيمته، مما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم إلى أرقام قياسية تجاوزت 35% في بعض الفترات.
الشباب المصري، الذي يمثل أكثر من 60% من إجمالي السكان، يواجه بطالة مزمنة تصل إلى 25% بين حملة المؤهلات العليا. ومع تدهور جودة التعليم وعدم مواءمة المناهج مع سوق العمل، أصبحت الشهادات الجامعية مجرد أوراق لا قيمة لها.
هذه الظروف الاقتصادية القاسية دفعت بالآلاف إلى المخاطرة بحياتهم عبر طرق الهجرة غير الشرعية، حيث يدفع الشاب المصري ما بين 5-7 آلاف دولار لشبكات التهريب، وهو مبلغ يجمعه عبر الاقتراض أو بيع ممتلكات أسرته.
القمع السياسي والأمني: إغلاق أفق المستقبل
الجانب السياسي من الأزمة لا يقل خطورة عن الجانب الاقتصادي. فالحكومة الحالية أغلقت كل المسارات السلمية للتغيير، وقمعت الحريات الأساسية، وحولت مصر إلى واحدة من أكبر سجون الصحفيين والنشطاء في العالم.
هذا المناخ القمعي خلق حالة من اليأس السياسي لدى الشباب، الذين لا يرون أي أفق للمشاركة في صنع القرار أو التعبير عن مطالبهم.
القوانين المقيدة للحريات، مثل قانون التظاهر وقانون مكافحة الإرهاب، أصبحت أدوات لملاحقة أي صوت معارض.
ومع غياب أي أفق ديمقراطي حقيقي، أصبحت الهجرة بالنسبة للكثيرين ليست مجرد بحث عن لقمة العيش، بل هروب من سجن كبير يقيد حريتهم وكرامتهم.
فالشاب المصري اليوم يواجه خياراً مريراً: إما البقاء في وطن لا يملك فيه حرية التعبير أو المخاطرة بالموت في رحلة عبر البحر.
قاع البحر الأبيض المتوسط: مقبرة الشباب المصري
الإحصائيات المروعة تكشف حجم الكارثة الإنسانية. فقد بلغ عدد المصريين الذين غرقوا في محاولات الهجرة غير الشرعية خلال السنوات العشر الأخيرة أكثر من 1500 شخص، بمعدل 150 ضحية سنوياً.
وفي عام 2023 وحده، سجلت المنظمة الدولية للهجرة وفاة 187 مصرياً في رحلات الموت عبر المتوسط.
الحادثة الأخيرة قبالة سواحل اليونان، التي راح ضحيتها 18 مصرياً، ليست حادثاً منعزلاً.
فقد أصبحت هذه الحوادث ظاهرة متكررة، حيث يتم استخدام قوارب متهالكة لا تصلح للإبحار، ويتم حشد العشرات في مساحات ضيقة دون أي وسائل أمان.
شبكات التهريب، التي تعمل بحرية نسبية، تستغل اليأس الاقتصادي والسياسي للشباب، وتبيع لهم أحلاماً وهمية عن حياة أفضل في أوروبا.
الحكومة المصرية، بدلاً من مواجهة الأسباب الجذرية للظاهرة، تكتفي بإصدار بيانات إدانة لشبكات التهريب، دون أي محاسبة حقيقية لمسؤوليها عن السياسات التي دفعت بهؤلاء الشباب إلى الموت.
فالخطاب الرسمي يتجاهل تماماً العلاقة المباشرة بين تردي الأوضاع الاقتصادية والسياسية وبين تزايد أعداد المهاجرين غير الشرعيين.

