في مؤشر جديد يعكس عمق المأزق المالي الذي يحيط بالاقتصاد المصري، كشف معهد التمويل الدولي (IIF) عن بيانات صادمة تتعلق بتطور الدين العام، حيث قفز الدين الحكومي (بشقيّه المحلي والخارجي) بنسبة 8.2% خلال الربع الثالث من العام الجاري 2025، ليصل إلى مستوى تاريخي غير مسبوق عند 302.7 مليار دولار.
وتأتي هذه الأرقام لتضع الحكومة المصرية أمام تحديات وجودية تتعلق بمدى استدامة الدين وقدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها، وسط تساؤلات مشروعة عن جدوى السياسات المالية المطبقة طوال السنوات الماضية.
قفزة قياسية في زمن قياسي
أظهرت البيانات التفصيلية للتقرير أن الدين الحكومي ارتفع من 279.7 مليار دولار في نهاية الربع الثاني إلى 302.7 مليار دولار بنهاية الربع الثالث من 2025. هذه الزيادة، التي تبلغ قيمتها نحو 23 مليار دولار في ثلاثة أشهر فقط، تعني أن الحكومة كانت تستدين بمعدلات متسارعة للغاية لتغطية العجز وسداد أقساط ديون سابقة، في ما يُعرف اقتصاديًا بـ "تدوير الدين".
ويشير المحللون إلى أن هذه القفزة لا تعكس فقط توسعًا في الاقتراض، بل تتأثر أيضًا بتقلبات سعر صرف الجنيه المصري أمام الدولار، حيث يتم تقويم الدين المحلي بالدولار لأغراض الإحصاء الدولي، مما يضخم من فاتورة الدين.
بين الرواية الرسمية والواقع المرير
في الوقت الذي تدق فيه المؤسسات الدولية ناقوس الخطر، تحاول وزارة المالية المصرية تسويق رواية مغايرة، مركزة على "الجوانب الإيجابية" مثل سداد ما يقارب 25 مليار دولار من الدين العام المحلي. إلا أن الخبراء يرون في هذا الطرح "نصف الحقيقة"؛ فالسداد غالبًا ما يتم عبر الاقتراض الجديد بفوائد أعلى.
كما أن سداد الدين المحلي لا يعني حل أزمة السيولة الدولارية المطلوبة لسداد الديون الخارجية. إن الاحتفاء بسداد جزء من الدين في ظل ارتفاع الإجمالي العام للدين بما يتجاوز 300 مليار دولار يبدو كمحاولة لتجميل صورة قاتمة.
منصات التواصل.. دفتر عزاء مفتوح يوثق "صرخات الجوع"
في ظل هذه الأرقام الصادمة، يترجم الواقع الاقتصادي نفسه إلى مأساة يومية في الشارع المصري. وقد تحولت منصات التواصل الاجتماعي إلى ساحة مكشوفة للأنين المكتوم، حيث أظهرت مقاطع فيديو متداولة حجم الكارثة المعيشية التي تضرب البيوت المصرية؛ إذ وثقت الكاميرات انهيار مواطن مصري باكيًا لعجزه عن توفير الطعام لأطفاله، محذرًا في مشهد يدمي القلوب من أن "الناس هتموت بعض في الشوارع" تحت وطأة الجوع والقهر.
وبالتوازي، رصدت عدسات النشطاء صرخة مدوية لمواطن آخر يختصر حال الملايين الذين سحقتهم فواتير الديون بعبارة "ظروفنا وحشة.. ارحمونا"، في استغاثة تكشف عمق اليأس الذي تملكه. كما نقلت المقاطع المصورة مشهدًا لسيدة مصرية تبكي بحرقة قائلة "مصر متستاهلش كدة"، معبرة عن صدمة قطاع واسع من الشعب تجاه الانهيار المتسارع الذي جعل الطبقة الوسطى تلحق بالفقراء في طوابير العوز. هذه المشاهد المتتابعة ليست مجرد محتوى رقمي عابر، بل هي وثائق إدانة حية لسياسات اقتصادية جعلت مجرد البقاء على قيد الحياة "معركة" يومية للمواطن المصري.
خبراء يدقون ناقوس الخطر: "اقتصاد إدارة الأزمات" وصل لطريق مسدود
وفي تعليقهم على هذه المؤشرات الكارثية، أجمع عدد من الخبراء الاقتصاديين البارزين على خطورة المسار الحالي. فقد حذر الخبير الاقتصادي هاني توفيق من أن الاعتماد المفرط على الضرائب لسداد الديون لن يحل الأزمة، مشيرًا إلى أن "ما يقلقه بشدة هو الدين الخارجي" الذي يتطلب فوائد دولارية تعجز الموازنة عن توليدها دون بيع أصول أو مزيد من الاقتراض، واصفًا الوضع بأنه "دوران في حلقة مفرغة".
من جانبه، انتقد ممدوح الولي، نقيب الصحفيين الأسبق والخبير الاقتصادي، هيكل الموازنة العامة، موضحًا أن أعباء خدمة الدين (فوائد وأقساط) باتت تلتهم أكثر من 60% من استخدامات الموازنة، مما يعني عمليًا أن "أعباء الدين ستلتهم حصيلة الضرائب كاملة"، وهو ما يترك الدولة عاجزة عن تمويل التعليم والصحة إلا عبر مزيد من الديون.
فيما رأت الدكتورة عالية المهدي، العميد الأسبق لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، أن الحديث الحكومي عن "تحسن المؤشرات" لا ينعكس على حياة المواطن، مؤكدة أن "المواطن لا يشعر بالتحسن الاقتصادي" لأن انخفاض معدل التضخم لا يعني انخفاض الأسعار بل يعني أنها تزيد بوتيرة أبطأ، محذرة من أن استمرار هذا الوضع يؤدي لتآكل الطبقة الوسطى وتفاقم الفقر.

