رغم كل ما جرى حشده من أموال، ورشاوى انتخابية، وسيارات نقل للناخبين، وطوابير مصطنعة، وضغط أمني وإعلامي؛ جاءت جولة إعادة انتخابات مجلس النواب في دوائر الجيزة فضيحة سياسية مدوية لحكم الانقلاب، بعد أن كشفت صناديق الاقتراع عن الحقيقة العارية: الناس قاطعت، والشرعية غائبة، والعرس الانتخابي المزعوم بلا جمهور.
ثلاث دوائر أُعيدت الانتخابات فيها بقرار من المحكمة الإدارية العليا بسبب خروقات وتزوير، ورغم ذلك تتكرر نفس الانتهاكات: شراء أصوات، توجيه ناخبين، دعاية سافرة، ومنع صحفيين ومندوبين، في مشهد يكشف أن السلطة لا تعرف إلا صناعة ديكور انتخابي متهالك لتجميل برلمان مطعون في شرعيته من اللحظة الأولى.
صناديق فارغة وطوابير مصطنعة تفضح المشهد
المشهد أمام لجان الطالبية والعمرانية، والدقي والجيزة، وبولاق الدكرور كان أبلغ جواب من الناس على مسرحية الصناديق. لا طوابير حقيقية، لا زحام، لا حضور يُذكر، سوى سيارات أجرة وميكروباصات تحاول جرّ من يمكن جره إلى اللجان، في مقابل مبالغ مالية أو وعود زائفة.
اللجان التي كانت السلطة تتفاخر بصورها في الجولة الأولى، بطوابير "شباب وفتيات" من فئة عمرية واحدة، ظهرت الآن على حقيقتها: طوابير مصطنعة، مدفوعة الأجر، جزء من عملية تزييف وعي وتجميل صورة نظام يعرف أن الناس لا تريد المشاركة في لعبته.
في الدقي والجيزة، نصف ساعة كاملة دون دخول ناخب واحد للجنة مدرسة بدر بشارع إيران، يقول أكثر مما تقوله كل بيانات "النسبة العامة للاقتراع". وفي مدرسة الأورمان الثانوية بنات، اختفى الزحام الوهمي، وبقيت لافتات المرشحين وكراسي الأنصار الفارغة شاهداً على عزوف حقيقي.
شراء أصوات بالجملة.. اعتراف رسمي لا يغيّر شيئًا
في الطالبية، تحوّلت الانتخابات إلى سوق علني لشراء الأصوات. حسب شهادات الأهالي، سيارات تابعة لحملة المرشح السيد زغلول تنقل الناخبين من وإلى اللجان، ثم إلى مقر تابع لحملته، حيث يتم توزيع 200 جنيه لكل ناخب بعد التصويت.
المرشح الذي اشتكى في طعنه السابق من "الرشاوى والتلاعب" عاد اليوم ليستخدم الأسلحة نفسها: المال السياسي، استغلال الفقر، وشراء الإرادة. والمرشح المستقل جرجس لاوندي لم يكن أفضل حالاً؛ جمع بطاقات الرقم القومي عبر أصحاب محلات، وأيضاً 200 جنيه للصوت، وتوزيع الأموال داخل كوافير حريمي أمام مدرسة أحمد عرابي.
الأخطر أن الهيئة الوطنية للانتخابات نفسها اعترفت بوجود "نقاط حشد" لشراء الأصوات في الطالبية، وخرج مديرها التنفيذي ليتحدث عن "متابعة الشكاوى" و"التنسيق مع الأمن". اعتراف لا يغيّر شيئاً في الجوهر: الانتخابات تُدار في مناخ يسمح بالمال السياسي، ولا يملك إرادة حقيقية لتجريم ومحاسبة من يشترون البرلمان مسبقاً.
200 جنيه ووجبة.. شعار انتخابات النواب 2025#مزيد pic.twitter.com/GN5PEuYZE9
— مزيد - Mazid (@MazidNews) November 25, 2025
أمن يمنع الصحفيين ويُضيّق على المندوبين
في الوقت الذي تُترك فيه حملات المرشحين تشتري الأصوات وتدير الحشد بسيارات ميكروباص، يتفرغ الأمن لمهمة أخرى: منع الصحفيين والمراقبين الحقيقيين من أداء دورهم. ضابط شرطة أمام مدرسة الشهيد هشام شتا الإعدادية بنات يمنع صحفي "المنصة" من التصوير أو حتى الوقوف في محيط اللجنة.
داخل بعض اللجان، منعت الشرطة دخول مندوبي مرشحين رغم حملهم توكيلات، بحجة عدم وجود "بطاقات تعريف" صادرة من الهيئة الوطنية، بينما يُسمح على الجانب الآخر بحركة دعاية وحشد مموّلة، ومسيرات بالطبول والمزمار، وسيارات تحمل صور رئيس الانقلاب ومكبرات صوت تدعو الناس للنزول.
بهذا، تكتمل المعادلة: تضييق على الإعلام المستقل، وتحكم أمني في هوية المندوبين، وفتح الباب للمال السياسي والدعاية لصالح مرشحين بعينهم، في عملية انتخابية تفتقد أبسط شروط النزاهة والشفافية.
مسرحية "انزل شارك".. بلا جمهور
في بولاق الدكرور، سيارات ميكروباص تحمل علم مصر وعبارات "انزل شارك"، ومسيرة صغيرة بالمزمار والطبول لا تتجاوز 20 شخصًا، سيارة دفع رباعي تحمل صورة السيسي ومكبرات صوت، لافتات على مسافة من اللجان، لكن النتيجة واحدة: إقبال محدود، حضور باهت، وعزوف واضح عن المشاركة.
كل هذه الأدوات الدعائية لم تنجح في إقناع الناس بالمشاركة، لأن التجربة المريرة مع برلمانات ما بعد الانقلاب كشفت حقيقتها: برلمان لا يشرّع لصالح الناس، بل يمرر القوانين التي تسحقهم، برلمان يوافق على بيع أصول الدولة ورفع الأسعار وحزمة الضرائب، ولا يمارس رقابة حقيقية على الحكومة أو الأجهزة الأمنية.
حين يهتف أحد المرشحين داخل مقر اللجنة "أي توجيه هيتصور"، فهذه ليست جملة عابرة، بل تلخيص ساخر لطبيعة المشهد: لا ثقة بين الأطراف، ولا قواعد واضحة، وكل طرف يخشى انكشاف ما يجري بالداخل، في انتخابات يفترض أنها "ديمقراطية" و"نزيهة".
شرعية منقوصة وبرلمان بلا تمثيل حقيقي
623 مرشحًا يتنافسون على 58 مقعداً في 30 دائرة أُعيدت الانتخابات فيها بعد إلغاء نتائج 68.5% من دوائر المرحلة الأولى بسبب خروقات جسيمة: شراء أصوات، توجيه ناخبين، عدم إرسال محاضر فرز. هذه النسبة وحدها كافية لإسقاط أي ادعاء بنزاهة العملية الانتخابية برمتها.
عندما تُلغى نتائج أغلب الدوائر بحكم قضائي، ثم تُعاد بنفس الأدوات: المال، الحشد، الأمن، المنع، والدعاية الرسمية؛ فنحن أمام نظام لا يريد انتخابات حقيقية، بل يحتاج فقط إلى ورقة يضعها أمام الخارج تقول إن "هناك برلماناً منتخباً".
ما حدث في جولة الإعادة بالجيزة رسالة واضحة من الشارع: الناس لم تعد تصدق مسرحية الصناديق، ولم تعد ترى في هذا المجلس تمثيلاً لها أو دفاعاً عن مصالحها، مهما جرى من شراء أصوات أو صناعة طوابير أمام الكاميرات.
في النهاية، يمكن لحكومة الانقلاب أن تشتري بعض الأصوات، لكنها لا تستطيع أن تشتري شرعية مفقودة، ولا احترام شعب قرر أن يقاطع صناديق يعلم مسبقاً أن نتائجها مكتوبة سلفاً.

