أطلق الدكتور سمير رضوان، وزير المالية الأسبق، صفارة إنذار جديدة حول الانهيار المالي الذي قاد إليه حكم العسكر في مصر، مؤكدًا أن مستويات الدين العام وصلت إلى ما يتجاوز الحدود الآمنة، وأن خدمة الدين وحدها تبتلع ما بين 45 و60٪ من إجمالي إيرادات الموازنة العامة.

 

اعتراف رضوان – القادم من داخل مطبخ صناعة القرار الاقتصادي سابقًا – يكشف بوضوح حجم الفشل المدوي لنظام الانقلاب، الذي حوّل الاقتصاد المصري إلى رهينة لديون خارجية بلغت 161.2 مليار دولار، في ظل اعتماد خطير على ما يسمى بـ"الأموال الساخنة" وسياسات ترقيع لا ترقى إلى مستوى مواجهة الأزمة البنيوية التي صنعها بنفسه.

 

نمط تنمية مدمر يعتمد على “الأموال الساخنة”

 

الوزير الأسبق كشف بوضوح أن حكومات الانقلاب منذ 2013 اتبعت نمط تنمية هشًا وخطيرًا، يقوم على تدفق سريع للأموال الأجنبية، ما خلق وهْمًا بإمكانية التوسع في الاقتراض من مصادر قصيرة الأجل. هذه السياسة لم تكن رؤية تنموية، بل كانت هروبًا للأمام عبر تعويم الدولة على "الأموال الساخنة" التي تنسحب في أي لحظة، كما حدث بالفعل خلال الأزمة الروسية الأوكرانية، حين اهتزت الأسواق الناشئة وتكشّف عجز النظام عن حماية الاقتصاد.

 

هذا النمط جعل الاقتصاد المصري شديد التعرّض لصدمات الخارج، بدلًا من أن يبني قاعدة إنتاجية حقيقية في الداخل. وبذلك، لم يعد القرار الاقتصادي في يد المصريين، بل بات مرهونًا بحركة المضاربات وأسواق الدين العالمية، في أخطر تعرية للسيادة الاقتصادية منذ عقود.

 

تراكم ديون وسداد قديم باقتراض جديد

 

رضوان أوضح أن هذه السياسات أدت إلى تراكم الديون بشكل غير مسبوق، مع زيادة أعباء خدمتها عامًا بعد عام، بينما تنشغل حكومة الانقلاب بسداد التزاماتها بأي ثمن، حتى لو اضطرت للاقتراض مجددًا لسداد ديون قديمة. هذه الحلقة الجهنمية تعني أن النظام لا يدير اقتصادًا بل يدير "مضاربة على زمن الدولة" عبر رهن الأجيال القادمة لديون وفوائد متصاعدة.

 

عندما تصل خدمة الدين إلى ما يصل إلى 60٪ من إيرادات الموازنة، فهذا يعني عمليًا أن الدولة تعمل لخدمة الدائنين لا لخدمة المواطن. ما يتبقى للصحة، والتعليم، والدعم، والبنية الأساسية، يصبح فتاتًا، بينما تستمر السلطة في الإنفاق ببذخ على مشروعات استعراضية وقصور رئاسية وطرق وجسور لا تُنتج قيمة مضافة حقيقية.

 

أولويات مختلة ومشروعات “فنكوش”

 

شدد وزير المالية الأسبق على أن جوهر المشكلة يكمن في انحراف بوصلة الأولويات. فالقطاعات الإنتاجية الرئيسية مثل الصناعة والزراعة والسياحة لم تحصل على الاهتمام المطلوب خلال السنوات الماضية، رغم أنها القادرة وحدها على خلق موارد مستدامة من العملة الصعبة وتوفير فرص عمل حقيقية. في المقابل، تدفقت مليارات الجنيهات والدولارات نحو مشروعات "فنكوش" ضخمة الدعاية ضعيفة العائد، من عاصمة إدارية إلى طرق وكباري بلا رؤية صناعية أو زراعية موازية.

 

حتى تحسن الصادرات الزراعية وغير البترولية مؤخرًا، إلى جانب نشاط السياحة، لا يراه رضوان جزءًا من استراتيجية طويلة الأمد، بل تحركات ظرفية لا تعكس خطة شاملة. بمعنى آخر، النظام يترك الاقتصاد تحت رحمة الظروف الدولية وتحولات الأسواق، دون أن يمتلك مشروعًا حقيقيًا لإعادة بناء القدرة الإنتاجية لمصر.

 

دعاية رسمية عن “استراتيجية متكاملة”

 

في مواجهة هذه الحقائق القاتمة، لا يجد نظام الانقلاب إلا ترديد الخطاب الدعائي. أحمد كجوك، نائب وزير المالية في حكومة السيسي، يزعم أن السلطة تستهدف خفض الدين العام لأقل من 80٪ من الناتج المحلي في يونيو 2026، ويتحدث عن "تحريك الاقتصاد" و"تحسين مؤشرات المديونية" و"خلق حيز مالي" وكأنها مجرد معادلات على ورق، وكأن خدمة الدين لا تلتهم ما يقارب نصف إيرادات الدولة.

 

كجوك يتحدث عن "استراتيجية متكاملة" لإدارة الديون بدعم من كل جهات الدولة، ويؤكد توجيه "أي إيرادات استثنائية" لخفض المديونية. لكن الواقع يقول إن الدين الخارجي يتضخم، وإن بيع أصول الدولة – من موانئ إلى شركات استراتيجية – يتم تحت لافتة "جذب استثمار" بينما هو في جوهره تصفية لممتلكات الشعب لسد فجوة ديون صنعها النظام نفسه.

 

مبادلة ديون وبيع أصول تحت مسمى “تمويل مبتكر”

 

الحديث عن "التمويل المبتكر" عبر مبادلة الديون بالاستثمارات أو مقايضتها لزيادة الإنفاق على التنمية البشرية والحماية الاجتماعية، ليس إلا غطاء تجميلي لعملية خطيرة: تحويل الدائنين إلى ملاك مباشرين لأصول وثروات مصر. بدلًا من التحرر من قبضة الديون، يدخل الاقتصاد المصري في مرحلة أعمق من الارتهان، حيث تصبح الأرض والموانئ والشركات العامة أوراق تفاوض لتخفيف عبء الفوائد.

 

هذه السياسات لا تعني عدالة اجتماعية ولا تنمية حقيقية، بل تعني انتقالًا تدريجيًا لملكيات استراتيجية من يد الدولة والمجتمع إلى أيدي مستثمرين ودائنين أجانب وإقليميين، بينما يبقى المواطن المصري يتحمل عبء الغلاء، ورفع الدعم، وضرائب غير مباشرة تخنق ما تبقى من الطبقة الوسطى والفقيرة.

 

أرقام لامعة تغطي واقعًا مظلمًا

 

يدّعي كجوك أن معدل دين أجهزة الموازنة إلى الناتج المحلي انخفض بأكثر من 11٪ خلال عامين، وأن الحكومة تستهدف النزول به إلى أقل من 80٪ في 2026، ويتحدث عن نمو اقتصادي يتجاوز 5.3٪، وفائض أولي 3.6٪ من الناتج المحلي، ونمو للقطاع الخاص بنسبة 73٪. هذه الأرقام المتراصة قد تبدو مبشرة على الورق، لكنها تتجاهل سؤالين جوهريين: من يدفع ثمن هذا "الفائض"؟ وهل ينعكس هذا "النمو" في حياة الناس أم يظل حبيس تقارير وزارة المالية وصندوق النقد؟

 

الفائض الأولي يتحقق عادة عبر خفض الإنفاق الاجتماعي ورفع الضرائب والرسوم، أي عبر مزيد من الضغط على المواطن. أما نمو القطاع الخاص المعلن، فيأتي في ظل بيئة يهيمن فيها الجيش وشركاته على مفاصل الاقتصاد، ويجري فيها تهميش القطاع الخاص الحقيقي أو إخضاعه بالكامل لشبكات النفوذ.

 

اعتراف من الداخل بفشل “جمهورية الديون”

 

اعتراف وزير مالية أسبق بأن الدين العام تجاوز الحدود الآمنة، وأن خدمة الدين تبتلع معظم الإيرادات، يمثل شهادة قاطعة من داخل البيت الاقتصادي للنظام بأن ما يجري هو مسار انتحاري، وأن "جمهورية جديدة" السيسي ليست سوى "جمهورية الديون والرهونات".

 

وبين خطاب دعائي رسمي يتحدث عن "استراتيجية متكاملة" و"تمويل مبتكر" و"نمو متسارع"، وبين واقع أرقام الديون وتآكل الإنفاق الاجتماعي، تتضح الحقيقة: مصر تُقاد نحو مستقبل مثقل بالالتزامات، بينما يتم سحق ما تبقى من القدرة الإنتاجية والعدالة الاجتماعية تحت أقدام مشروع عسكري فاشل اقتصاديًا قبل أن يكون قمعيًا وسياسيًا.