لقاح الإنفلونزا يتحول في مصر من حق صحي أساسي إلى رفاهية موسمية للأغنياء، في مشهد يلخّص جوهر سياسات حكومة الانقلاب: استيراد مكلف، وأسعار مشتعلة، ودعاية رسمية عن “توطين اللقاحات” لا يلمس المواطن منها سوى المزيد من الاستنزاف لجيبه. ما قاله الدكتور محمد عز العرب عن أن تكلفة الاستيراد العالية وغياب الإنتاج المحلي الفعّال وراء وصول سعر اللقاح إلى 350 جنيهًا في الصيدليات وقرابة 265 جنيهًا في الوحدات الحكومية، يفضح فشلًا سياسيًا قبل أن يكون مسألة فنية في “تركيبة” اللقاح.
أسعار فلكية للقاحات الوقاية
المتاح فعليًا في السوق هذا الموسم هو لقاحات مستوردة بأسماء تجارية مختلفة، تصل في بعض الصيدليات إلى 370 جنيهًا للجرعة، بينما تعلن “فاكسيرا” عن سعر أقل قليلًا (274 جنيهًا) لنوع رباعي متاح في فروعها، ومع ذلك يبقى خارج قدرة شريحة واسعة من محدودي الدخل إذا احتاجت الأسرة أكثر من جرعة واحدة. هذه الأرقام تعني أن موظفًا أو عاملًا يعول أسرة من أربعة أفراد يحتاج إلى ما يقارب مرتب نصف شهر فقط لتطعيم أسرته ضد الإنفلونزا، في وقت تلتهم فيه فواتير الكهرباء والنقل والغذاء الجزء الأكبر من دخله.
وفي حين تروّج وزارة الصحة وهيئة المصل واللقاح لأنواع مختلفة من لقاح الإنفلونزا الرباعي “بأسعار تنافسية” مقارنة بالشركات الخاصة، إلا أن الحد الأدنى نفسه (أكثر من 250 جنيهًا للجرعة) يظل بعيدًا تمامًا عن مفهوم “التطعيم الجماهيري” الذي يفترض أن يكون في متناول الفقراء أولًا، لا حكرًا على من يستطيع دفع ثمن الوقاية نقدًا.
استيراد باهظ.. وذريعة جاهزة للحكومة
تصريح عز العرب بأن اللقاح مستورد بالكامل وأن تكلفة الاستيراد هي السبب الرئيسي وراء الغلاء، يعكس واحدًا من أخطر أوجه العطب في إدارة المنظومة الصحية تحت حكم السيسي: الاعتماد شبه الكامل على الخارج في منتج استراتيجي موسمي، ثم استخدام هذا الاعتماد ذريعة لترك الأسعار تنفلت على حساب المواطن. التركيبة الرباعية للقاح تتغير سنويًا بالفعل تبعًا لتغير سلالات الفيروس، لكن هذا واقع عالمي، ومع ذلك تعمل دول كثيرة على دعم اللقاح أو تسعيره بشكل اجتماعي يراعي الدخل، بدلاً من تركه للعبة السوق الحرة والتسوّق بين شركات أجنبية متعددة.
ما يحدث في مصر هو العكس تقريبًا: وزارة الصحة تشجع على تلقي اللقاح، وتحدد فئات ذات أولوية، لكنها لا تقدم برنامجًا وطنيًا حقيقيًا يضمن وصوله للفئات الأكثر عرضة للخطر مجانًا أو بسعر رمزي؛ كبار السن، مرضى الصدر، وأصحاب الأمراض المزمنة. في ظل هذه السياسات، تتحول نصائح “خُذوا اللقاح لتحموا أنفسكم من المضاعفات” إلى ترف كلامي؛ من يستطيع الدفع يلتزم بالتوصيات، ومن يعجز يترك لمصيره مع الفيروس ومضاعفاته.
دعاية “توطين اللقاحات” أم توطين الغلاء؟
الحكومة تتحدث بكثافة عن “توطين صناعة اللقاحات” وعن أدوار فاكسيرا و“إيجيبتو فارما” والمدينة الطبية بأبوزعبل، وتعلن رسميًا عن الإعداد لتصنيع لقاح الإنفلونزا محليًا ونقل تكنولوجيا التصنيع من شركاء أجانب، بل وتتباهى بأن المصانع الجديدة يمكنها إنتاج مئات الآلاف من الجرعات وتصدير الفائض. على الورق، يبدو هذا إنجازًا مهمًا؛ لكن على أرض الواقع، ما زال المواطن في 2025 يدفع سعر لقاح مستورد أو شبه مستورد لا يقل كثيرًا عن مثيله في السوق الدولية، بل يتجاوزه أحيانًا قياسًا إلى دخله.
الأخطر أن خطاب “نستهدف أن نصبح مركزًا إقليميًا لتصنيع اللقاحات” يأتي قبل أن تتمكن الدولة من ضمان حق مواطنيها أنفسهم في الحصول على هذه اللقاحات بسعر عادل. تبدو الأولوية هنا دعائية واستثمارية: صورة دولة “حديثة” تصنع اللقاحات وتصدّرها، حتى لو ظل مريض الأمراض المزمنة في قرية فقيرة عاجزًا عن دفع ثمن جرعة واحدة من لقاح الإنفلونزا الرباعي.
خصخصة المناعة تحت حكم الانقلاب
ما تكشفه قصة لقاح الإنفلونزا هذا العام هو منطق أوسع يحكم سياسات حكومة الانقلاب في الصحة: خصخصة تدريجية لحق الناس في الوقاية والعلاج، وإلقاء عبء الأسعار على المواطن، مع إحاطة هذا الفشل بستار من الشعارات عن “الجمهورية الجديدة” و“توطين الصناعة”. الارتفاع الكبير في سعر اللقاح، مقابل غياب برنامج دعم قوي للفئات الأضعف، يعني ببساطة أن العدوى ومضاعفاتها ستضرب الفقراء أكثر، وأن من يملك المال يشتري الحماية، ومن لا يملك يبقى وحيدًا في مواجهة المرض.
في دولة تحترم حق الصحة فعلًا، لا يمكن أن يبقى لقاح موسمي أساسي بهذا السعر، ولا أن تكتفي الحكومة بتبرير الغلاء بكلفة الاستيراد مع بعض الوعود الفضفاضة عن إنتاج محلي قادم. المطلوب ليس مصنعًا يعقد له مؤتمر صحفي، بل سياسة واضحة: دعم مباشر للقاح للفئات المستحقة، إدماجه في حزم الرعاية الأساسية، وتسعير ملزم للشركات الخاصة يمنع تحويل المناعة إلى سلعة موسمية على رفوف الصيدليات. أما ما تفعله سلطة السيسي اليوم فليس سوى إعادة إنتاج نفس المعادلة: استيراد باهظ، دعاية إعلامية، وسوق حرة على حساب صحة الناس وأمنهم الصحي.

