لم تعد مأساة انهيار المنظومة الصحية في مصر تحت حكم الانقلاب مقتصرة على غلاء الأسعار أو نقص المستلزمات، بل تجاوزت ذلك إلى "جريمة قتل بطيء" تدخل بيوت المصريين عبر منافذ كانت يوماً ما آمنة. حين تتحول عبوة الدواء من وسيلة للشفاء إلى أداة تهديد للحياة، وتصل يد المواطن عبر "صيدلية مرخصة" وتحت سمع وبصر الجهات الرسمية، فإننا نكون أمام دولة رفعت يدها تماماً عن حماية مواطنيها، وتركتهم فريسة لعصابات "بئر السلم" التي تعبث بأرواح البشر.

 

الطفل "يونس"، ذو العامين، لم يكن إلا ضحية جديدة لهذا الانهيار الإداري والرقابي المريع. تروي والدته، سارة (37 سنة)، كيف تحول "المضاد الحيوي" الذي كان يفترض أن يخفف آلام صغيره إلى كابوس كاد يودي بحياته. فبدلاً من التعافي، ازداد الطفل إنهاكاً وظهر تجمّع دموي عند اللوزتين، ليكتشف الطبيب الكارثة: العبوة مغشوشة. "الملصق مائل"، هكذا وصفت الأم العبوة القاتلة التي اشترتها من صيدلية رسمية، في مشهد يلخص حالة الفوضى التي تضرب أطناب الدولة.

 

مصانع "بئر السلم".. إمبراطورية تدار بالبودرة والجير

 

تكشف الشهادات المروعة من داخل سوق الدواء عن كارثة تصنيع محلي تدار في الخفاء، حيث استبدلت عصابات الغش المادة الفعالة بـ "بودرة السيراميك" و"بودرة الثلج"، أو حتى الجير والجبس، لإنتاج أقراص مقلدة تطابق الأصل في الشكل الخارجي فقط.

 

يعترف علي عوف، رئيس شعبة الأدوية، بأن هذه الكيانات غير المرخصة تستخدم ماكينات بدائية، بعضها يُصنع في ورش خاصة بالإسكندرية ومناطق أخرى بعيداً عن أعين "هيئة الدواء" التي تبدو وكأنها في غيبوبة، إذ تتبع هذه الورش المحليات التي ينخرها الفساد. الكارثة أن هذه المصانع تنتج عبوات تحاكي الأصل بدقة متناهية، من العبوة الكرتونية إلى النشرة الداخلية، لتخرج السموم إلى الأسواق دون أن يوقفها أحد.

 

الدولة تبيع "أدوات الجريمة" في المزادات!

 

لعل أخطر ما كشفته التصريحات هو تورط الآليات الرسمية -ولو عن طريق الإهمال الجسيم- في تسليح هذه العصابات. يؤكد محمود فؤاد، مدير مركز الحق في الدواء، أن ماكينات تصنيع الدواء التي يتم "تكهينها" في المصانع الرسمية، والتي يفترض أن تُعدم أو تُباع كخردة تحت رقابة صارمة، تجد طريقها إلى مصانع "بئر السلم".

 

بدلاً من أن تضمن وزارة الصحة تقطيع هذه الماكينات لمنع إعادة استخدامها، تتسرب هذه المعدات لتعود للعمل في إنتاج السموم. ويشير "عوف" بوضوح إلى أن ماكينات تصنيع الدواء كانت تباع علناً على أرصفة منطقة "السبتية" بوسط القاهرة! كيف لنظام أمني يدعي السيطرة على كل شبر في البلاد أن يعجز عن رصد ماكينات ضخمة لإنتاج الأدوية تباع في الشوارع؟ إنه العجز التام أو التواطؤ الصامت الذي سمح لـ "بائع أسماك" في مدينة نبروه بإدارة مصنع أدوية كامل داخل منزل تحت الإنشاء، مستخدماً ماكينات وإصطمبات لإنتاج أقراص مغشوشة برائحة الدواء فقط!

 

صيدليات بلا رقابة.. وتواطؤ "الخصومات"

 

السؤال الأخطر الذي يطرح نفسه: كيف تخترق هذه العبوات القاتلة حصون الصيدليات المرخصة؟ الإجابة تكمن في غياب الرقابة الحكومية الصارمة وترك السوق نهباً للفوضى. تتسلل الأدوية المغشوشة عبر "موزعين وهميين" يعرضون خصومات تصل إلى 40% على الأدوية الناقصة، وهي خصومات تغري بعض النفوس الضعيفة في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة.

 

واقعة الدقهلية، التي ضُبطت فيها سيارة تحمل مضادات حيوية مغشوشة بقيمة 50 مليون جنيه، تكشف حجم الكارثة. الموزع المزور انتحل صفة وكيل لشركة كبرى وقدم فواتير مضروبة، ولولا شكوك أحد المخازن، لكانت هذه الكميات الهائلة قد استقرت في أجساد المرضى. ورغم تحذيرات المسؤولين من أن التعامل يجب أن يكون بفواتير رسمية، إلا أن الواقع يؤكد أن الصيدليات، وخاصة في الأقاليم والمناطق النائية التي تعترف الحكومة بصعوبة تفتيشها، باتت مرتعاً لهذه السموم.

 

حكومة غائبة وتطبيقات مشبوهة

 

وفيما تكتفي الحكومة بإصدار البيانات التحذيرية بعد وقوع الكوارث، تتسع رقعة الخطر عبر التطبيقات الإلكترونية وصفحات التواصل الاجتماعي التي تبيع الوهم للمواطنين دون رقيب. يؤكد محفوظ رمزي، من نقابة الصيادلة، أن "تجار الشنطة" والكيانات الوهمية أصبحت بوابات خلفية لترويج هذه المنتجات القاتلة.

 

إن ما حدث للطفل يونس، وما يحدث لآلاف غيره، ليس مجرد حوادث فردية، بل هو نتاج طبيعي لمنظومة حكم تخلت عن دورها في حماية "الأمن الدوائي" للمواطنين، وتركت الحبل على الغارب لماكينات الموت تدور في الخفاء، وللفساد أن ينخر في جسد الرقابة، ليصبح الدواء في مصر تحت حكم الانقلاب.. رصاصة طائشة قد تصيبك في مقتل بدلاً من أن تشفيك.