في مشهد عبثي بات متكرراً مع كل كارثة، خرج مصطفى مدبولي، رئيس حكومة الانقلاب، لا ليعلن حالة الطوارئ أو يصارح الشعب بحقيقة الخطر الداهم، بل ليمارس دوره المفضل كـ "طبيب تخدير" سياسي، نافياً بدم بارد ما يراه المصريون بأعينهم في المستشفيات والبيوت..
بينما يتحدث مدبولي عن "تطور طبيعي للإنفلونزا"، يصرخ الواقع في العيادات والاستقبالات بغير ذلك. الأطباء الميدانيون يؤكدون أنهم يواجهون أعراضاً شرسة لا تستجيب للبروتوكولات التقليدية، ومعدلات انتشار تفوق أي "معدلات طبيعية" يتشدق بها بيان الحكومة.
هنا، تأتي تحذيرات الدكتورة منى مينا، وكيل نقابة الأطباء السابقة، لتضع النقاط على الحروف. ترى "مينا" أن استمرار التعامل مع الأزمات الوبائية بمنطق "الأسرار العسكرية" هو كارثة. فغياب الشفافية لا يعني غياب الفيروس، بل يعني ترك الأطقم الطبية والمواطنين عزلاً في مواجهة عدو مجهول. وتؤكد أن ما تصفه الحكومة بـ "البلبلة" هو في الحقيقة "جرس إنذار" يحاول الأطباء الشرفاء دقه قبل فوات الأوان، لكن السلطة تفضل إسكات الجرس بدلاً من إطفاء الحريق.
ويتفق معها الدكتور إيهاب الطاهر، الذي يرى أن حديث مدبولي عن "الأساس العلمي" هو محض هراء ما لم يكن مدعوماً ببيانات حقيقية منشورة ومتاحة للتدقيق المستقل. يشير "الطاهر" إلى أن الحكومة اعتادت تسمية الأشياء بغير مسمياتها لامتصاص الغضب، وأن التقليل من شأن "الفيروس الجديد" وحصره في خانة "الإنفلونزا الموسمية" هو تكرار لسيناريو كارثي دفع المصريون ثمنه غالياً من قبل، حيث يُترك المريض دون تشخيص دقيق حتى تتدهور حالته.
مستشفيات خاوية وصيدليات فارغة.. أكذوبة "الجاهزية"
لعل أكثر ما يستفز في تصريحات مدبولي هو حديثه عن "توافر الأدوية". أي أدوية يتحدث عنها ورئيس وزراء الانقلاب يعلم جيداً أن الصيدليات ترفع شعار "نواقص" منذ أشهر؟
يفند الدكتور محمد حسن خليل، منسق لجنة الحق في الصحة، هذه الأكاذيب بالأرقام، مشيراً إلى أن المنظومة الصحية في مصر تعاني من "هشاشة هيكلية" تجعلها عاجزة عن التعامل مع الضغوط العادية، فكيف بوباء جديد؟ يرى "خليل" أن تصريحات "الجاهزية" موجهة للاستهلاك الإعلامي فقط، بينما الواقع يؤكد نقصاً حاداً في أسرّة الرعاية المركزة، واختفاءً لأصناف حيوية من المضادات الحيوية وخافضات الحرارة، مما يحول "الإصابة العادية" إلى "مشروع وفاة" للمواطن الفقير الذي لا يملك ثمن العلاج في المستشفيات الخاصة التي يمتلكها جنرالات وحيتان النظام.
وفي السياق ذاته، يؤكد الدكتور مصطفى جاويش أن الحكومة تمارس "التعمية" عبر خلط الأوراق. فبدلاً من تعزيز إجراءات الرصد والتقصي، تكتفي ببيانات مطمئنة لا تساوي الحبر الذي كُتبت به. يحذر "جاويش" من أن هذا الاستهتار سيؤدي إلى تفشي العدوى بشكل ينفجر في وجه الجميع، وحينها لن تجدي "المؤتمرات الصحفية" نفعاً، ولن يحمي العاصمة الإدارية أسوارها العالية من زحف المرض.
الشفافية المزعومة.. تاريخ من الخداع
استشهد مدبولي بـ "شفافية كورونا" كدليل على صدق حكومته، وهو استشهاد يثير السخرية المريرة. فالمصريون لم ينسوا كيف كانت الأرقام الرسمية في وادٍ، والواقع في وادٍ آخر، وكيف كان يُجبر الأطباء على كتابة "التهاب رئوي" في شهادات الوفاة بدلاً من الحقيقة.
يعلق الدكتور محمد فتوح على هذا المشهد، مؤكداً أن النظام الحالي يتعامل مع "الصحة العامة" كملف أمني بحت. الأولوية ليست لإنقاذ الأرواح، بل لـ "حماية الصورة" ومنع أي تململ شعبي قد ينتج عن الخوف. يرى "فتوح" أن هذا النهج يعكس عقلية لا تقيم وزناً للمواطن، وتعتبر "الموت" مجرد "أرقام" يمكن التلاعب بها في جداول الإحصاء. بالنسبة له، مدبولي ليس سوى موظف ينفذ تعليمات عليا بـ "تسكين" الشعب، حتى لو كان الثمن هو ترك الفيروس يفتك بالأجساد المنهكة أصلاً من الفقر والجوع.
الصمت جريمة
إن ما يمارسه مصطفى مدبولي وحكومة الانقلاب اليوم ليس مجرد "تطمينات"، بل هو "تواطؤ" ضد سلامة هذا الشعب. الإصرار على نفي الواقع وتكذيب صرخات الاستغاثة هو جريمة لا تقل بشاعة عن القتل العمد. الفيروس - أياً كان اسمه أو تصنيفه - ينتشر، والمستشفيات تئن، والمواطن يدفع الضريبة من صحته وعمره. الأطباء الشرفاء قالوا كلمتهم: "نحن أمام خطر حقيقي"، فهل يستفيق الشعب ليدرك أن "بلدوزر" النظام لا يهدم المنازل فقط، بل يدهس أيضاً الحق في الحياة والعلاج، تاركاً المصريين فريسة لمرض لا يرحم وحكومة لا تشعر؟

