ارتفاع معدل البطالة إلى 6.4% في الربع الثالث 2025 ليس رقمًا عابرًا، بل صفعة مباشرة لرواية "الإنجازات غير المسبوقة" التي تروج لها حكومة الانقلاب ليل نهار. فبينما تصوَّر السلطة المشهد وكأن الاقتصاد يقترب من "طاقته القصوى"، يكشف الواقع عن توسع في قوة العمل بلا وظائف حقيقية، وعن ملايين تُدفع قسرًا إلى الهشاشة والفقر. هذه المفارقة بين اقتصاد ينمو على الورق، وشباب يُسحق في الشارع، هي جوهر الأزمة التي تحاول الحكومة إخفاءها خلف لافتات الطرق والكباري والعاصمة الإدارية.

 

أرقام البطالة تفضح رواية الإنجاز

 

البيانات الرسمية نفسها تعترف بأن معدل البطالة قفز من 6.1% في الربع الثاني إلى 6.4% في الربع الثالث 2025، مع ارتفاع عدد العاطلين إلى نحو 2.229 مليون شخص، أي بزيادة قدرها 175 ألف متعطل خلال ثلاثة أشهر فقط. وفي الوقت الذي تفاخر فيه الحكومة بارتفاع قوة العمل إلى 34.727 مليون فرد بزيادة 3.3%، فإن هذه الزيادة جاءت أساسًا من دخول مئات الآلاف لسوق العمل بحثًا عن أي فرصة للهروب من الجوع، وليس نتيجة توسع إنتاجي حقيقي. الأخطر أن البطالة في الحضر بلغت 10.1% مقابل 3.6% في الريف، ما يعكس انسداد الأفق في المدن الكبرى التي يُفترض أنها مراكز النشاط الاقتصادي، ويكشف زيف خطاب "الجمهورية الجديدة" التي لا يجد شبابها مكانًا فيها.

 

جيل الجامعات.. الضحية الأولى لـ«اقتصاد المقاولات»

 

تقر الأرقام بأن 83% من العاطلين هم من حملة المؤهلات المتوسطة والجامعية وما فوقها، وهي نسبة كاشفة لمدى تحطيم قيمة التعليم في ظل هذا النظام. حين يكون 43.4% من العاطلين من خريجي الجامعات، فهذا يعني أن الدولة أنفقت مليارات على منظومة تعليمية تنتهي بطوابير بطالة، بينما تُضَخ الأموال في مشروعات خرسانية كثيفة رأس المال ضعيفة التوظيف، تخدم المقاولين وشبكات المحسوبية أكثر مما تخدم خلق فرص عمل منتجة. هذا "اقتصاد مقاولاّت" لا يحتاج لعقول، بل لمزيد من الديون والطرقات والعواصم الوهمية، تاركًا جيلاً كاملًا من المتعلمين على الهامش بلا أمل ولا دور.

 

توسع شكلي في سوق العمل.. بلا كرامة ولا أجور كافية

 

صحيح أن عدد المشتغلين زاد بنحو 939 ألف فرد وفق البيانات الرسمية، لكن غياب أي شفافية حول نوعية هذه الوظائف وأجورها يجعل هذا الرقم أقرب إلى "ديكور إحصائي" منه إلى تحسن حقيقي في معيشة الناس. تجارب السنوات الماضية تؤكد أن معظم ما يُخلق من وظائف يأتي في قطاعات هشة، قليلة الأجر، بلا تأمين اجتماعي حقيقي، وبلا استقرار وظيفي، مع توسع العمل غير الرسمي والعمل باليومية الذي لا يوفر أي حماية في مواجهة التضخم وانهيار الجنيه. وهكذا يتحول "الانخراط في سوق العمل" من وسيلة للنجاة إلى شكل آخر من الاستغلال، حيث يعمل المصري أكثر ويكسب أقل، بينما تتراكم الثروات في يد قلة مرتبطة بالأجهزة السيادية والمشروعات الكبرى.

 

أزمة بطالة أم استراتيجية إفقار وضبط اجتماعي؟

 

ما يبدو ظاهريًا كـ"مشكلة بطالة" هو في جوهره جزء من نمط حكم يستخدم الإفقار والبطالة كأدوات للسيطرة؛ فشعب مرعوب من الغلاء والعطالة لن يجد فراغًا ليطالب بحرية أو يحاسب فاسدًا. تركّز البطالة في المدن، وبين الشباب المتعلم، وتآكل الطبقة الوسطى، كلها عناصر تصنع مجتمعًا منكسرًا، يقبل بأي وظيفة مهينة أو أي فتات دعم، مقابل الصمت على قمع سياسي غير مسبوق وتمرير سياسات بيع الأصول وإرضاء الدائنين. في ظل هذا النموذج، لا تُعتبر البطالة "فشلًا" بل "أداة" لإنتاج مواطن ضعيف، مفكك، مستعد لقبول الهجرة أو العمل في أي ظروف، بينما تستمر آلة الدعاية في بيع "الفناكيش" على أنها تنمية، وتستخدم الأرقام المجمّلة لإخفاء حقيقة بسيطة: هذه السلطة لا تبني اقتصادًا للمصريين، بل تبني نظامًا يستنزفهم ويعيد تدويرهم كقوة عمل رخيصة وكتلة صامتة تحت سقف الخوف.