بينما تُرفع شعارات "دولة المؤسسات" و"الجمهورية الجديدة"، تكشف الحقائق عن نمط حكم أبعد ما يكون عن مؤسسات الدولة، وأكثر شبهًا بـ"نظام إقطاعي أمني"، حيث تتقاسم الأجهزة الأمنية لا فقط مقاعد البرلمان، بل كذلك مفاصل الإعلام والسياسة والاقتصاد. تقرير "صحيح مصر" الأخير حول التغطية الإعلامية لأحزاب الموالاة كشف عمق الأزمة، وأعاد إلى الواجهة السؤال الأهم: من يحكم مصر؟

 

التوزيع السياسي تحت راية الأجهزة

 

ما يسمى بـ"القائمة الوطنية من أجل مصر" لم يكن نتاج حياة حزبية أو تنافس سياسي، بل كان ببساطة خريطة توزيع سلطات صاغتها الأجهزة الأمنية. وتحديدًا ثلاث جهات سيادية تقاسمت النفوذ عبر ثلاثة أحزاب:

 

جهاز الأمن الوطني يدير حزب مستقبل وطن، المسيطر على 121 مقعدًا.

 

المخابرات الحربية تقف خلف حزب حماة وطن (54 مقعدًا).

 

المخابرات العامة تدير حزب الجبهة الوطنية (43 مقعدًا).

 

المقاعد محسومة، والانتخابات صورية، ولا توجد منافسة، بل أوامر توزيع واضحة ومغلقة، تُنفذ بأدوات إعلامية وأمنية دقيقة.

 

رعاية إعلامية.. حسب الجهة الأمنية

 

تقرير "صحيح مصر" لم يتوقف عند المقاعد البرلمانية، بل كشف عن خريطة الرعاية الإعلامية لكل حزب موالٍ، حسب الجهة الداعمة له:

 

الأمن الوطني سخّر قناة المحور لحزب مستقبل وطن، وأصدر تعليمات بمنع استضافة أي ضيف من "الجبهة الوطنية" أو "حماة وطن".

 

المخابرات العامة تدعم حزب الجبهة عبر شبكة المتحدة للخدمات الإعلامية، المالكة لقنوات DMC، ON، وCBC.

 

المخابرات الحربية تمنح حزب حماة وطن الأولوية عبر قنوات الحياة وإكسترا نيوز.

 

هذا التوزيع لا يترك مجالًا للصدفة، بل يُظهر أن كل جهة أمنية باتت تملك إقطاعية كاملة: حزب، قناة، رجال أعمال، وجزء من السلطة.

 

العودة إلى مراكز القوى: نموذج "ما قبل الدولة"

 

ما نشهده اليوم ليس سوى نسخة محدثة من نظام مراكز القوى الذي ساد في عهد عبد الناصر. حينها كانت الدولة مقسّمة بين أجهزة، وكل جهاز يدير إعلامًا واقتصادًا وسياسة خاصة به. اليوم، عاد هذا النموذج بكل قوته، ولكن تحت عباءة "الجمهورية الجديدة"، والفرق الوحيد هو أن الفساد لم يعد استثناءً بل قاعدة حاكمة.

 

في عهد مبارك، رغم فساد النظام، كانت الرئاسة تمثل مركز القرار. أما اليوم، فالرئاسة نفسها تراعي وتحافظ على توازنات الأجهزة الأمنية، لتضمن ولاءها، ما يجعل الدولة تدار من خلال شبكة مصالح، لا من خلال مؤسسات دستورية.

 

أمننة السياسة.. ثم الاقتصاد والإعلام

 

هذا النمط من الحكم الفردي، الذي يعتمد على تغول الأجهزة لا على الكفاءة أو الشفافية، أغلق المجال العام تمامًا:

 

- الأحزاب ممنوعة من العمل إلا تحت عباءة الأجهزة.

 

- الإعلام لا يخاطب المواطن بل ينفذ تعليمات أمنية صادرة من "مكاتب التنسيق الإعلامي".

 

- رجال الأعمال يرتبطون بالولاء للأجهزة وليس بالقدرة الاقتصادية أو الإنتاجية.

 

هكذا أُغلقت الدولة أمام أي إصلاح حقيقي، وتحولت إلى ما يشبه "شبه الدولة"، حيث تسود المحاباة والفساد والمحاصصة الأمنية، على حساب دولة القانون والمؤسسات.

 

تدهور حتمي ما لم يُكسر هذا النموذج

 

ما كشفه التقرير الأخير ليس تفصيلًا هامشيًا، بل جوهر الطريقة التي تُدار بها الدولة المصرية اليوم. ومع تغول الأجهزة على السياسة والإعلام والاقتصاد، تتآكل فرص الإصلاح الحقيقية، وتتعمق الفجوة بين النظام والمجتمع، وتتسارع أزمات الاقتصاد والثقة والمشروعية.

 

الحل لن يكون عبر بيانات رئاسية براقة أو مؤتمرات "تنمية"، بل عبر تفكيك هذا النموذج الأمني-الإقطاعي، والعودة إلى دولة مدنية مؤسسية، تُدار عبر القانون، وتُحاسب فيها السلطة لا تُقدّس.

 

دون ذلك، فمصر ليست "على طريق الدولة"، بل على منحدر الدولة الفاشلة.