في الوقت الذي تعاني فيه المستشفيات الحكومية من انهيار في الخدمات ونقص الأدوية وتدهور البنية التحتية، اختارت حكومة الانقلاب بدلاً من دعم القطاع الصحي العام، فتح أبواب المستشفيات أمام المستثمرين المحليين والأجانب عبر قانون جديد أصدره قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي في 24 يونيو 2024، تحت عنوان "منح التزام المرافق العامة لإدارة وتشغيل المنشآت الصحية".

 

ورغم التحذيرات الواسعة من نقابة الأطباء ومؤسسات حقوقية ومهنية، تصر الحكومة على أن ما يحدث ليس خصخصة، بينما تشير الحقائق إلى بيع تدريجي للصحة العامة وتحويل العلاج من حق أساسي إلى سلعة لمن يملك المال فقط.

 

قانون يفتح الباب للسيطرة على المستشفيات العامة

 

يسمح القانون الجديد للمستثمرين — سواء كانوا مصريين أو أجانب — بإدارة وتشغيل وتطوير المستشفيات الحكومية، لمدة قد تمتد لسنوات طويلة، مقابل نسبة محدودة تعود للدولة.

 

ورغم الترويج الرسمي بأن الهدف هو "تطوير الخدمة"، فإن بنود القانون تثير تساؤلات خطيرة حول:

 

- أحقية المستثمر في التحكم بالنظام الإداري والطبي

 

- مصير العاملين داخل المؤسسات الصحية العامة

 

- قدرة المرضى الفقراء على الاستمرار في تلقي العلاج

 

فالقانون لا يضع سقفًا للأسعار أو ضوابط للتسعير، ما يمهد لتحويل المستشفيات الحكومية إلى مشروعات ربحية بحتة.

 

أكثر من 500 مستشفى على الطريق.. بلا جدول زمني أو رقابة شفافة

 

قبل عام، أعلن المتحدث باسم وزارة الصحة حسام عبد الغفار أن الوزارة تستعد لطرح أكثر من 500 مستشفى تكامل للقطاع الخاص، لكن دون أي خطة زمنية أو معايير واضحة لاختيار الشركات.

 

تأسست مستشفيات التكامل في الأساس لتقديم خدمات أولية مجانية وتخفيف الضغط عن المستشفيات المركزية، لكنها الآن تتحول من خدمة عامة إلى بوابة ربحية بقرار سياسي فوقي، ما يعني أن الفقراء لن يجدوا مستشفى يمكنهم دخوله دون دفع عشرات الآلاف.

 

فضيحة مستشفى جوستاف روسي: نموذج على المصير القادم

 

تكشف صفقة إدارة وتشغيل مستشفى هرمل للأورام — التي أصبحت "جوستاف روسي إنترناشونال مصر" — عن الصورة الواقعية لما ينتظر القطاع الصحي تحت هذه السياسات.

 

فخلال السنوات الخمس الأولى تحصل وزارة الصحة فقط على 3% من الإيرادات، ثم ترتفع النسبة إلى 5% بعد ذلك. أما الأرباح الكبرى فتذهب إلى الشركة المشغلة.

 

وتزامن نقل الإدارة مع شكاوى واسعة من المرضى، أبرزها:

 

- وقف صرف العلاج الكيماوي مجانًا

 

- إجبار المرضى على شراء أدوية من الخارج

 

- تخفيض عدد جلسات العلاج على نفقة الدولة من 16 إلى 6 فقط

 

ورغم رد الإدارة بأن المشكلة حدثت قبل تسلّمها، فإن النتيجة واحدة: المريض أصبح الحلقة الأضعف في عملية استثمارية بحتة.

 

دعوى قضائية تطعن في خصخصة الصحة: إنقاذ ما يمكن إنقاذه

 

قدّم المحامي الحقوقي خالد علي دعوى أمام القضاء الإداري نيابة عن أطباء بارزين بينهم منى مينا ورشوان شعبان، تطالب بإلغاء قرارات الخصخصة التي تتم تحت اسم "الشراكة مع القطاع الخاص".

 

وتضمنت الدعوى اتهامات واضحة بأن القانون يخالف الدستور ويهدم الحق في العلاج، كما يسمح للمستثمرين بالاستغناء عن 75% من العاملين، ما يهدد مستقبل الأطباء والتمريض، وينسف برامج التدريب الطبي التي يعتمد عليها النظام الصحي بكامله.

 

إنكار رسمي.. وحقيقة لا يمكن إخفاؤها

 

رغم كل ذلك، لا يزال رئيس الوزراء مصطفى مدبولي ينفي وجود خصخصة، مدعيًا أن الهدف هو "استقدام خبرات أجنبية".

 

ولكن الحقائق على الأرض تقول بوضوح:

 

- رفع أسعار الخدمات الطبية

 

- تقليص العلاج على نفقة الدولة

 

- تراجع قدرة المستشفيات على استقبال المرضى

 

- توسع استثمارات الشركات الخاصة في الصحة بدل الدولة

 

أي "تطوير" هذا الذي يستغني عن الكوادر الطبية، ويقلص العلاج المجاني، ويحوّل المستشفى العام إلى مشروع تجاري؟

 

صحة المصريين ليست سلعة

 

إذا كان المسؤولون يصرون على أن "الصحة ليست رفاهية"، فإن السؤال الحقيقي اليوم هو:

 

لماذا تبيع الحكومة المستشفيات العامة للمستثمرين، بينما المواطن لا يجد سريرًا أو دواءً أو حتى كرامة إنسانية في العلاج؟

 

إن ما يحدث ليس تطويرًا ولا إصلاحًا اقتصاديًا، بل تجريف ممنهج لحق الأمة في الصحة، وتحويل المرض إلى وسيلة استثمار في بلد يعيش فيه أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر.