أثار تصريح عضو غرفة الصناعات الغذائية المهندس أيمن قرة—الذي طالب فيه المواطنين بـ«تقليل استخدام الزيت واللجوء للشوي والسلق بدل الشكوى من فارق ارتفاع السعر»—غضبًا واسعًا، لأنه يحمّل الأسر عبء الأزمة بدل محاسبة الحكومة والشركات على فشل السياسات التي أنتجت موجات غلاء متتالية. يأتي التصريح في 9 نوفمبر 2025، بعد أيام من تراجع شركات عن مبادرة خفض أسعار الزيوت، في مشهد يلخّص اختلال السوق وعجز «حكومة الانقلاب» عن حماية المستهلك أو بناء أمنٍ غذائي حقيقي.
تصريح يلقي اللوم على الضحية
بدل أن يشرح قرة أسباب ارتفاع الأسعار وسوء تنظيم السوق وسلاسل الاستيراد والتوزيع، اختار خطابًا أخلاقيًا يطالب المواطن بتعديل سلوكه الغذائي. هذا الأسلوب يتهرب من السؤال الجوهري: لماذا تُترَك الأسعار للانفلات ومن المسؤول عن غياب أدوات التدخل الحكومي الرشيد؟ التصريح نفسه منشور حرفيًا في «الشروق» بعنوان: «نتمنى المواطن يقلل القلي ويلجأ للشوي والسلق بدل الشكوى»، ما يقطع بأنه ليس اقتباسًا مجتزأً بل موقف معلن.
اقتصاد ريعي يراهن على الاستيراد… ثم يلوم المستهلك
جوهر المشكلة أن مصر تعتمد بشكل شبه كامل على استيراد خامات زيوت الطعام. مصادر متطابقة تحدثت خلال 2024–2025 عن نسب تتراوح بين 95% و96% من الاحتياج المحلي يأتي من الخارج؛ أي أن أي اضطراب عالمي أو تغير في أسعار الشحن والعملات ينعكس مباشرة على مائدة المصريين. هذا الاعتماد المزمن لا يُعالَج بنصائح «الشوي والسلق»، بل بسياسات زراعية وصناعية جادة.
حكومة تتفرّج وشركات تتراجع
في 6 نوفمبر 2025، أفادت تقارير صحفية بتخلّي شركات زيوت عن مبادرة حكومية لخفض الأسعار والعودة إلى القوائم السعرية القديمة، وسط ركود في السوق. هذا يعني أن الحكومة نفسها لا تملك أدوات إلزام أو آليات تعاقدية تحفظ وعود «خفض الأسعار» أكثر من بضعة أسابيع دعائية. كيف يُطلب من المواطن «التكيف» بينما تفشل السلطة في مجرد تثبيت تعهّدات قصيرة الأجل؟
إدارة أزمة تُدار بالتصريحات لا بالسياسات
حتى حين أعلنت الجهات الرسمية في 15 سبتمبر 2025 التعاقد على ست شحنات من الزيوت النباتية الخام من دول البحر الأسود، لم يُعرَض إطارٌ شفاف لسياسة مخزون استراتيجي يضمن الاستقرار السعري أو يعالج تقلبات العملة، بل بقي الإعلان حدثًا عابرًا بلا أثر ملموس على فاتورة الشراء اليومية للمستهلك. الاعتماد على صفقات استيراد متفرقة يظل مسكّنًا، لا علاجًا.
أين المسؤولية العامة؟
تصريحات قرة—وهو عضو بغرفة صناعية نافذة—تكشف تماهِي جزء من مجتمع الأعمال مع مقاربة حكومية تُحمّل المواطن تبعات فشل السوق. بدل مساءلة حلقات الاستيراد والتسعير وهوامش الربح غير المنضبطة، يوجَّه الخطاب إلى سلوك الأسرة في مطبخها. هذه المفارقة ليست جديدة؛ فقد سبق لمسؤولين صناعيين الإقرار تاريخيًا بأن مصر تستورد معظم مدخلات الزيوت منذ سنوات، دون أن تتحول هذه الحقيقة إلى مشروع وطني جاد للتوسع في المحاصيل الزيتية والبنية التكريرية.
السيادة الغذائية قبل «نصائح المطبخ»
إذا كانت البلاد تستورد جلّ احتياجاتها من الزيوت، فالأولوية ليست «التقليل من القلي» بل بناء برنامج سيادة غذائية تدريجي:
خريطة محاصيل زيتية (عبّاد الشمس، الكانولا، فول الصويا) بمحفزات سعرية وضمان شراء للمزارعين.
تمويل مخاطر لتقلبات الأسعار العالمية عبر أدوات تحوّط وعقود آجلة شفافة.
ضبط هوامش الربح في حلقات التعبئة والتوزيع ومراقبة المنافسة لمنع الاتفاقات الضمنية.
إدارة مخزون استراتيجي معلَنة المعايير والفترات، تربط الإفراج من المخزون بمؤشرات الأسعار لا بالمواسم الدعائية.
هذه خطوات ملموسة تتعلق بمسؤوليات الدولة والسوق، لا بنصائح نمط حياة تقدمها غرف صناعية لمن أثقلهم الغلاء.
خطاب يفضح أزمة حكم
حين يُطالَب المواطن—المسحوق أصلًا—بالتخفف من الزيت بدل محاسبة منظومة تصنع الغلاء ثم تتبرأ منه، فنحن أمام أزمة حكم لا أزمة «عادات غذائية». تصريح أيمن قرة هو مرآة لنهج «حكومة الانقلاب» التي تتعامل مع المعيشة كحقل تجارب وخطاب علاقات عامة؛ تستورد بلا استراتيجية، تعِد بلا التزام، ثم تُلقي اللوم على من يدفع الثمن. المطلوب سياسة عامة تعيد المركز إلى حق المواطنين في أسعار عادلة وغذاء متاح، لا محاضرات في الشوي والسلق.

