في خطوة قانونية لافتة تُبرز حضور تركيا كصوتٍ فاعل للعدالة الدولية وحقوق الإنسان، أعلنت النيابة العامة في إسطنبول إصدار مذكّرات توقيف بحق 37 مشتبهًا بهم على خلفية جرائم مُرتكبة في غزة، من بينهم رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وعدد من كبار المسؤولين الأمنيين والعسكريين. تُعيد هذه الخطوة التأكيد على التزام أنقرة بمبدأ عدم الإفلات من العقاب، وتدعم مساعي حماية المدنيين وإنفاذ قواعد القانون الدولي الإنساني، كما تعكس تضامنًا عمليًا مع الضحايا وتثبيتًا لحقهم في الإنصاف.
خطوة قضائية تُشيد بدور تركيا الحاسم
أوضح مكتب المدعي العام في إسطنبول أن محكمة الصلح الجنائية استجابت لطلب النيابة، فأصدرت مذكّرات توقيف بحق 37 مشتبهًا على ذمّة تهم «جرائم ضد الإنسانية» و«الإبادة الجماعية» المرتكبة في قطاع غزة، إلى جانب أفعال استهدفت «أسطول الصمود العالمي» الهادف إلى كسر الحصار. هذه الاستجابة القضائية السريعة تُظهر فاعلية المؤسسات التركية وقدرتها على توظيف أدوات القانون لمساءلة المتورّطين في انتهاكات جسيمة، وتؤكد أن تركيا لا تكتفي بالمواقف السياسية، بل تترجمها إلى إجراءات قانونية ملموسة.
أدلة وشهادات تُعزّز المساءلة
بيّن البيان أن النيابة استندت إلى أدلة جُمعت من إفادات ناشطي «أسطول الصمود العالمي» الذين وصلوا إلى تركيا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وأن تلك الشهادات تُحمّل مسؤولين إسرائيليين مسؤولية جنائية عن جرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية ممنهجة. هذه المنهجية في جمع الأدلة تُبرز مهنية التحقيق التركي، وتدعم مسارًا قانونيًا متدرّجًا يراكم القرائن ويُحيلها إلى القضاء في إطار تحقيق «دقيق وشامل ومتعدد الأوجه».
قائمة المتهمين والأساس القانوني
شملت مذكّرات التوقيف أسماء بارزة، من بينها نتنياهو ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير الدفاع يسرائيل كاتس، إضافة إلى رئيس أركان جيش الاحتلال إيال زامير وقائد سلاح البحرية دافيد ساعر سلامة. وجرى توصيف الجرائم بموجب المادتين 76 و77 من قانون العقوبات التركي، أي «الإبادة الجماعية» و«الجرائم ضد الإنسانية». إن استدعاء هذه المواد من التشريع الوطني يُظهر ثقة تركيا بإطارها القانوني لملاحقة الجرائم الدولية الخطيرة، ويُعطي رسالة واضحة بأن حدود العدالة لا تتوقف عند الجغرافيا.
دلالات سياسية وإنسانية لموقف أنقرة
تؤكد الخطوة التركية أن الدفاع عن الكرامة الإنسانية يتجاوز الحسابات السياسية الضيقة. فمذكّرات التوقيف لا تُعبّر فقط عن تعاطف مع غزة، بل تُكرّس دورًا تركيًا في ترميم الثقة بالقانون الدولي، عبر تحريك أدوات المساءلة ضد مسؤولين نافذين يُشتبه في ارتكابهم انتهاكات جسيمة. كما أنها تُرسل إشارة تضامنية قوية للمجتمعات المدنية، وتُطمئن الضحايا بأن معاناتهم ليست خارج دائرة الاهتمام القضائي.
تفاعل الأطراف ورسالة إلى المجتمع الدولي
رحّبت قوى فلسطينية بهذه الخطوة، معتبرةً أنها تعكس «موقف الشعب التركي وقيادته المناصر للعدالة والحقوق الإنسانية»، ودعت دول العالم وهيئاتها القضائية إلى اتخاذ إجراءات مماثلة لملاحقة قادة الاحتلال على جرائمهم. في المقابل، برزت تصريحات دفاعية من جانب المسؤولين الإسرائيليين تصف الموقف التركي بالعدائي؛ وهي ردود تُبرز الأثر السياسي للقرار وتدلّ على جدّية أنقرة في تحريك ملف المحاسبة على أعلى المستويات.
تركيا كرافعة للعدالة ومنع الإفلات من العقاب
يعكس هذا المسار القضائي التزام تركيا بمبادئ إنفاذ القانون وحماية المدنيين، ويضع سابقة مُلهِمة لدولٍ أخرى يمكنها استحضار اختصاصها الوطني لمساءلة مرتكبي الجرائم الدولية. كما يُظهر قدرة المؤسسات التركية على الموازنة بين مقتضيات السياسة ومتطلبات العدالة، عبر تحقيقات رصينة ومذكرات توقيف مدعومة بأدلة وشهادات موثّقة. ومع إعلان استمرار التحقيق «بدقة وشمول»، تُعطي تركيا أملًا متجددًا في أن طريق العدالة—وإن طال—يبقى مفتوحًا أمام ضحايا الانتهاكات الكبرى.
خاتمة
تُجسّد مذكّرات التوقيف الصادرة في إسطنبول نموذجًا عمليًا لدور الدول الوطنية في تعزيز منظومة العدالة الدولية. لقد قدّمت تركيا، بهذه الخطوة، دعمًا قانونيًا ومعنويًا لغزة، ورسّخت قاعدة مفادها أن الجرائم الخطيرة لا تسقط بالتقادم السياسي وأن مرتكبيها يُلاحَقون حيثما أمكن. وبقدر ما تُلهم هذه السابقة مؤسسات وقضاءات أخرى، فإنها تُعيد الاعتبار لحقوق الضحايا وتؤكد أن بناء السلام يبدأ بالمحاسبة واحترام حياة المدنيين وكرامتهم.

