أعلنت وزارة الصحة بحكومة الانقلاب عبر متحدثها الرسمي عن خطة لطرح وحدات صحية أمام القطاع الخاص على مستوى الجمهورية، بدعوى أنها "وحدات فائضة عن احتياج هيئة الرعاية الصحية". هذا التصريح أثار جدلاً واسعًا، لا سيما في ظل الأرقام الرسمية التي تشير إلى العكس، ووسط تحذيرات من خطورة خصخصة مرافق عامة تم تطويرها بأموال قروض دولية ومبادرات خيرية. هذا التقرير يرصد أبعاد القرار، أسبابه المعلنة، وتناقضاته مع الواقع والتشريعات.
ما المقصود بـ"الوحدات الفائضة"؟ وهل هي كذلك حقًا؟
بحسب المتحدث الرسمي للوزارة، فإن الطرح يستهدف الوحدات التي تعتبر "فائضة عن الاحتياج"، وهو توصيف فضفاض يخفي مشكلات أعمق في التخطيط والتوزيع الجغرافي للخدمات الصحية. ميدانيًا، تشير العبارة إلى وحدات صحية خرجت من الاستخدام الفعلي بعد إعادة هيكلة المنظومة، لأسباب تشمل:
- تكرار الخدمات في نفس النطاق الجغرافي: وهو خلل في التخطيط يمكن تصحيحه بإعادة توزيع الأدوار بين الوحدات.
- قلة الكثافة السكانية: وهو مبرر غير منطقي في بلد تتزايد فيه الكثافة السكانية سنويًا.
- انخفاض الإقبال بسبب مجمعات طبية جديدة: وهو سبب مفهوم لكنه لا يبرر تحويل الوحدة إلى استثمار ربحي.
- نقل الخدمات إلى مراكز أخرى أكثر تجهيزًا: ما يعني أن هناك حاجة لإعادة توظيف الوحدات لا التخلص منها.
مبادرة "حياة كريمة".. الحاجة إلى تطوير وليس استغناء
تتناقض التصريحات الحكومية حول فائض الوحدات الصحية مع بيانات رسمية نشرتها هيئة الاستعلامات بتاريخ 28 مايو 2024، تؤكد أن وزارة الصحة تعمل على تطوير 1115 وحدة صحية ومركز طب أسرة ضمن مبادرة "حياة كريمة"، التي لم تغطِ حتى الآن سوى 25% من إجمالي 5400 وحدة رعاية صحية أولية في مصر.
وفي نوفمبر 2025، أعلنت الوزارة عن تطوير 1004 وحدة، وإدراج 1500 وحدة أخرى ضمن الخطة العاجلة للاستراتيجية الوطنية. كما صرّح مساعد وزير الصحة بإنجاز 348 مشروعًا صحيًا تشمل وحدات جديدة ومطورة. كل هذه الأرقام تكشف وجود فجوة كبيرة في تغطية الرعاية الصحية الأولية، تنفي وجود أي "فائض" حقيقي.
استثمارات ممولة بالقروض
تُطرح لاحقًا للقطاع الخاص تكشف العودة إلى تصريحات رسمية سابقة أن كثيرًا من الوحدات المطورة أُنشئت بتمويل دولي. ففي مؤتمر صحفي بتاريخ 20 أبريل 2017، أعلن وزير الصحة عن دعم بقيمة 42 مليون دولار من البنك الدولي لتطوير مستشفيات التكامل وتحويلها لمراكز نوعية، مع تخصيص 27 مليون دولار لتطوير وحدات الرعاية الأولية في الصعيد. كما أن مبادرة "حياة كريمة" ممولة من قروض خارجية وتبرعات بنكية.
لكن ما يثير الاستغراب هو أن هذه الوحدات – الممولة دوليًا – تُطرح الآن للاستثمار الخاص. ففي اجتماع بين وزير الصحة ومحافظ قنا بتاريخ 26 أكتوبر 2025، طُرح 40% من وحدات المحافظة (240 وحدة) للاستثمار، قبل أن تعلن الحكومة لاحقًا أنها لن تبيعها بعد احتجاجات شعبية واسعة.
التعارض مع القانون وتحايل تشريعي مرتقب الطرح المقترح يتعارض بوضوح مع القانون رقم 87 لسنة 2024، المعروف إعلاميًا بقانون تأجير المستشفيات، الذي يمنع بيع أو تأجير المؤسسات الصحية العامة بشكل مباشر. وقد ألمح المتحدث الرسمي للوزارة إلى نية تنفيذ الطرح بعد "دراسة القوانين الأخرى"، في إشارة إلى قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص لعام 2010، وقانون وثيقة ملكية الدولة لعام 2022، ما يفتح بابًا واسعًا للتحايل القانوني.
الخصخصة مقابل الخدمة المجانية..من يدفع الثمن؟
السبب الجوهري خلف هذه القرارات يعود إلى ضعف مخصصات وزارة الصحة، التي لم تتجاوز 1.2% من الناتج المحلي منذ عام 2013، ما اضطر الدولة إلى الاستدانة الخارجية لتطوير البنية التحتية الصحية. لكن طرح هذه المنشآت للقطاع الخاص يهدد بتحويل الخدمة الصحية المجانية إلى سلعة، في مجتمع يبلغ عدد الفقراء فيه قرابة 60 مليون مواطن.
وأخيرا فما يجري ليس مجرد إعادة هيكلة، بل تغيير في فلسفة تقديم الخدمة الصحية. فبدلًا من دعم الرعاية الصحية الأولية وتوسيع مظلتها لتشمل الفقراء، تتجه الدولة نحو شراكات قد تؤدي إلى تسليع الخدمة. المطلوب ليس طرح الوحدات، بل إصلاح إدارتها وتوفير التمويل الكافي لتشغيلها، وضمان وصول الخدمة لكل مواطن دون تمييز أو تكلفة مرهقة.

