في الوقت الذي تكافح فيه مصر أزمة اقتصادية خانقة ونقصاً حاداً في العملة الصعبة، يأتي الإعلان عن مشروع سكني ضخم في القاهرة الجديدة باستثمارات إماراتية-سعودية بقيمة 1.6 مليار دولار ليفتح باب التساؤلات حول طبيعة وجدوى هذه الاستثمارات للاقتصاد المصري. المشروع، الذي تنفذه شركتا "دله البركة" السعودية و"إعمار مصر" الإماراتية، يُتوقع أن يحقق إيرادات تصل إلى 2.44 مليار دولار (ما يعادل 117 مليار جنيه مصري)، وهو ما يسلط الضوء على نموذج استثماري يراه محللون اقتصاديون بأنه يخدم مصالح المستثمرين الأجانب بشكل أساسي، بينما يعمق من أزمات الاقتصاد المحلي على المدى الطويل.
 

أرباح ضخمة في سوق متعطشة
يأتي تصريح محمد العبار، مؤسس شركة "إعمار"، بأن "السوق العقارية المصرية تزخر بفرص واعدة"، ليؤكد ما يراه المستثمرون الخليجيون في مصر: فرصة لتحقيق أرباح طائلة ومضمونة. فعند استثمار 1.6 مليار دولار لتوليد إيرادات بقيمة 2.44 مليار دولار، فإن صافي الربح المتوقع يقترب من 840 مليون دولار. هذا الرقم، في حد ذاته، يكشف عن جاذبية السوق المصرية للشركات الكبرى التي تمتلك سيولة دولارية، حيث يمكنها الاستفادة من انخفاض قيمة الأصول المقومة بالجنيه المصري وتحقيق عوائد استثمارية ضخمة يصعب تحقيقها في أسواق أخرى أكثر استقراراً. 

لكن هذه "الفرص الواعدة" تأتي بتكلفة باهظة على الاقتصاد المصري. فالأرباح التي يتم جنيها بالعملة المحلية يتم تحويلها في النهاية إلى دولارات لإعادتها إلى الشركات الأم في الخارج، مما يشكل ضغطاً إضافياً على احتياطيات النقد الأجنبي الشحيحة أصلاً. وبدلاً من أن تساهم هذه الاستثمارات في تعزيز رصيد البلاد من العملة الصعبة، فإنها تتحول إلى آلية لشفط الدولار من السوق، سواء بشكل رسمي عبر البنوك أو من خلال السوق الموازية، لتلبية احتياجات المستثمرين الأجانب في تحويل أرباحهم.
 

نموذج استثماري يفاقم الأزمة
ينتقد خبراء اقتصاديون النموذج الاستثماري الذي يركز بشكل شبه حصري على قطاع العقارات الفاخرة. فهذه المشاريع تستهدف شريحة صغيرة من المجتمع ذات الملاءة المالية العالية، بالإضافة إلى المصريين العاملين في الخارج والمستثمرين الأجانب، الذين يسعون للحفاظ على قيمة مدخراتهم في أصول عقارية. بالتالي، لا تساهم هذه المشاريع في حل أزمة الإسكان التي يعاني منها غالبية المصريين، بل تخلق "فقاعات عقارية" في مدن جديدة شبه معزولة عن النسيج العمراني والاجتماعي للبلاد.

الأخطر من ذلك هو أن هذا النموذج يكرس حالة من "الاقتصاد الريعي"، حيث يتم تحقيق الثروة من خلال المضاربة على الأراضي والعقارات بدلاً من الاستثمار في قطاعات إنتاجية حقيقية مثل الصناعة والزراعة والتكنولوجيا، وهي القطاعات القادرة على خلق فرص عمل مستدامة وتوليد قيمة مضافة حقيقية للاقتصاد وزيادة الصادرات. إن توجيه مليارات الدولارات إلى بناء مجمعات سكنية فاخرة بينما تعاني المصانع من نقص المواد الخام وصعوبة تدبير الدولار لاستيراد الآلات، يعكس خللاً هيكلياً في أولويات السياسة الاقتصادية للحكومة.
 

هيمنة إماراتية على الأصول الاستراتيجية
يمثل مشروع "إعمار" و"دله البركة" حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الاستحواذات والاستثمارات الخليجية، والإماراتية على وجه الخصوص، في الاقتصاد المصري. لم يعد الأمر يقتصر على العقارات، بل امتد ليشمل قطاعات حيوية واستراتيجية مثل الموانئ والخدمات اللوجستية والبنوك والشركات الحكومية الرابحة التي تم طرحها للبيع ضمن برنامج الطروحات الحكومية. هذا التوغل المتزايد، الذي يتم الترويج له على أنه "دعم" و"مساندة" للاقتصاد المصري، يراه مراقبون بمثابة هيمنة متنامية على أصول الدولة الأكثر قيمة.

تصريح محمد العبار بأن حجم استثمارات شركته في مصر "تجاوز 1.878 تريليون جنيه" وأن محفظة أراضيها "تتخطى 34.6 مليون متر مربع"، يكشف عن الحجم الهائل للنفوذ الذي باتت تتمتع به هذه الشركات. هذا النفوذ يمنحها قدرة كبيرة على التأثير في السياسات العامة وتوجيهها بما يخدم مصالحها، وقد يأتي ذلك على حساب المصلحة العامة للمواطن المصري. فالحكومة المصرية، في سعيها المحموم لجذب الدولار بأي ثمن، قد تقدم تنازلات وإعفاءات ضريبية وجمركية وتخصص أراضي بأسعار تفضيلية، مما يقلل من الفائدة التي تعود على الخزانة العامة للدولة.
 

خاتمة: استثمار أم استنزاف؟
في الختام، لا يمكن إنكار أن أي استثمار أجنبي يوفر فرص عمل مؤقتة في قطاع الإنشاءات ويحرك جزءاً من السوق المحلية. ولكن السؤال الأهم يبقى: هل هذا النموذج الاستثماري مستدام ويخدم أهداف التنمية طويلة الأمد لمصر؟ إن مشروعاً يهدف إلى تحقيق أرباح تقارب المليار دولار ستذهب غالبيتها إلى خارج البلاد، في وقت يعجز فيه المواطن عن تدبير تكاليف علاجه أو تعليم أبنائه، يطرح تساؤلات أخلاقية واقتصادية عميقة. إن لم تتم إعادة توجيه دفة الاستثمار نحو قطاعات إنتاجية حقيقية تضمن بقاء القيمة المضافة داخل الاقتصاد المصري، فإن هذه المشاريع الضخمة لن تكون أكثر من مجرد عمليات استنزاف منظم لثروات البلاد تحت غطاء "الاستثمار الأجنبي المباشر".