يُعد فوز زهران ممداني بمنصب عمدة مدينة نيويورك حدثًا تاريخيًا بكل المقاييس. ليس فقط لأنه أول مسلم من أصول مهاجرة يتولى قيادة أكبر مدينة أمريكية، بل لأنه جاء وسط استقطاب سياسي حاد، وأزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، وفي مواجهة تحالف من رموز الرأسمالية الشرسة، يتقدمهم الرئيس دونالد ترامب، واللوبيات المالية والإعلامية التي سخّرت أدواتها لإسقاطه.
صوت جديد لجيل يسعى للتغيير
زهران ممداني، البالغ من العمر 34 عامًا، هزم شخصيات سياسية بارزة مثل الحاكم السابق أندرو كومو والمرشح الجمهوري كورتيس سليوا، رغم الدعم الكبير الذي تلقاه منافسوه من دوائر المال والنفوذ. وينتمي إلى التيار الديمقراطي الاشتراكي، ويمثل صوتًا جديدًا لجيل يسعى لإعادة تعريف السياسة الأمريكية على أسس العدالة الاجتماعية والاقتصادية، في مواجهة التيارات المحافظة والمعتدلة داخل الحزب الديمقراطي نفسه.
نيويورك: قلب أمريكا ورمز التعددية
مدينة نيويورك ليست مجرد مدينة كبرى، بل تُعد القلب النابض لأمريكا اقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا. فهي مركز مالي عالمي يؤثر في الاقتصاد الدولي، ومنارة للإبداع والفنون والإعلام. ورغم أنها مدينة محلية إداريًا، فإن قرارات عمدتها غالبًا ما تتردد أصداؤها على المستوى الوطني في الولايات المتحدة. كما تمثل نيويورك نموذجًا للتعددية، وفوز زهران ممداني يُجسد هذا التنوع ويعزز قيم الانفتاح والتمثيل العادل في وجه تيارات الإقصاء والهيمنة.
برنامج للمهمشين في مواجهة ترامب
اعتمد ممداني في حملته على أصوات المهمشين: الفقراء والمشردين والمهاجرين، وطرح سياسات جذرية مثل تجميد الإيجارات، وتوفير النقل العام المجاني، وتوسيع الإسكان العام، وإنشاء متاجر غذائية تديرها البلدية. لم يتردد في انتقاد ترامب، واصفًا إياه بـ"رمز الفساد"، بينما رد الأخير بوصفه بـ"الشيوعي" وهدد بقطع التمويل الفيدرالي عن المدينة.
موقف جريء من القضية الفلسطينية
ما يميز ممداني أيضًا هو موقفه الجريء من القضية الفلسطينية، حيث دعم حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات من إسرائيل (BDS)، واعتبر الحرب على غزة "جريمة إبادة جماعية"، بل أعلن أنه سيطالب باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو إذا زار المدينة، تنفيذًا لمذكرة المحكمة الجنائية الدولية.
هذا الموقف، الذي يتحدى اللوبي الصهيوني والنظام السياسي الأمريكي المنحاز، جعله هدفًا لحملات تشويه، لكنه لم يتراجع، بل أكد أن "العدالة لا تُجزأ".
اعتراض شعبي على سياسات واشنطن
قد يرى البعض أن هذا الفوز لا يمثل فقط صعود شخصية جديدة، بل هو اعتراض شعبي واضح على سياسات ترامب والإدارة الأمريكية الحالية، ورسالة بأن التغيير قادم من القاعدة لا من القمة.
وهو ما يفسر الدعم الكبير الذي حظي به من رموز التقدميين مثل بيرني ساندرز، وألكساندريا أوكاسيو-كورتيز، وبراد لاندر، وبراميلا جايابال، بالإضافة إلى دعم مؤسسات مثل حزب العائلات العاملة والديمقراطيين الاشتراكيين في أمريكا.
منعطف جديد في الممارسة السياسية
الأهم أن هذا الفرز السياسي قد يُنذر بمنعطف جديد في شكل الممارسة السياسية داخل الولايات المتحدة، يتجاوز الشكل الحزبي التقليدي الذي احتكر المشهد لعقود بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. فصعود شخصيات مثل ممداني، بدعم من تيارات تقدمية مستقلة مثل بيرني ساندرز وآخرين، وبعض المؤسسات مثل حزب العائلات العاملة والديمقراطيين الاشتراكيين في أمريكا قد يعيد تشكيل قواعد اللعبة السياسية، ويُضعف من مركزية الأحزاب الكبرى، ويفتح المجال أمام نماذج تمثيلية أكثر ارتباطًا بالناس وهمومهم اليومية، ويعيد الاعتبار لفكرة السياسة كأداة للتغيير لا كمنصة للنفوذ.
مستقبل بين التغيير والاستقطاب
نيويورك ليست مجرد مدينة، بل هي قلب أمريكا النابض اقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا. وما يحدث فيها يتردد صداه في عموم البلاد.
وفوز ممداني يعكس روح التعددية والانفتاح، ويعزز من حضور الأقليات في مواقع القرار، ويعيد الاعتبار لقضايا العدالة الاجتماعية في قلب النقاش العام.
هذا الانتصار قد يكون بداية موجة جديدة من السياسيين التقدميين في مدن أمريكية أخرى، وتحديًا مباشرًا لخطاب ترامب، وإشارة إلى أن أمريكا تتغير… من الأطراف إلى المركز، ومن المهمشين إلى صناع القرار المركزيين التقليديين.
وقد يسفر أيضا عن مزيد من التصدع والاستقطاب الحادث في المجتمع الأمريكي بسبب سياسات إدارة ترامب الحالية. هذا ما ستسفر عنه الأيام والشهور القليلة القادمة.

