تثير التحركات العسكرية غير الرسمية في مصر، خاصة في شمال سيناء، تساؤلاتٍ خطيرة حول مستقبل السلطة والسلاح في البلاد، وسط مؤشرات على تنامي نفوذ كيانات شبه عسكرية تعمل خارج الأطر القانونية، وبدعم من أجهزة سيادية.
ومع تصاعد الحديث عن دور رجل الأعمال إبراهيم العرجاني وشبكته المسلحة في سيناء، بدأت أصوات حقوقية وإعلامية تحذر من تحول هذه المجموعات إلى ميليشيا مستقلة قد تواجه المصريين مستقبلاً، في سيناريو يُشبه ما حدث في السودان حين تحولت “قوات الدعم السريع” من ذراع تابعة للنظام إلى قوة موازية للجيش.
اليوم، ومع تكرار التقارير عن انتهاكات ضد المدنيين في شمال سيناء، وازدياد اعتماد النظام على “قوات خاصة” خارج المؤسسة العسكرية الرسمية، يبدو أن مصر تسير في طريقٍ محفوفٍ بالمخاطر قد يُفضي إلى تفكك الدولة أو عسكرة المجتمع في المدى البعيد.
العرجاني وشبكة الميليشيات في سيناء
برز اسم إبراهيم العرجاني، رجل الأعمال المقرب من النظام، بوصفه “واجهة مدنية” لعمليات أمنية تديرها جهات سيادية في شمال سيناء.
العرجاني، الذي بدأ نشاطه كرئيس لمجموعة "أبناء سيناء"، أصبح خلال السنوات الأخيرة رمزاً لنفوذ اقتصادي وأمني متزايد في الإقليم، حيث تولت شركاته عقود الإعمار والتهريب التجاري عبر معبر رفح، إلى جانب علاقاته الوثيقة بجهاز المخابرات العامة.
لكن خلف هذا الغطاء الاقتصادي، تشير تقارير ميدانية وشهادات من سكان سيناء إلى أن مجموعات تابعة له تُمارس عمليات خطف وتعذيب وتصفية ميدانية ضد مدنيين يُشتبه في معارضتهم أو رفضهم التعاون مع الأجهزة الأمنية.
وتحدثت مصادر محلية عن مقابر جماعية في بعض المناطق الجبلية، وأعمال انتقام بحق أسر اتُّهمت بإيواء مطلوبين.
هذه الممارسات تذكّر كثيرين ببدايات قوات الدعم السريع السودانية، التي نشأت بذريعة مكافحة التمرد ثم تحولت لاحقاً إلى قوة منفلتة تهدد الدولة نفسها.
القوات الخاصة والسلاح الموازي
في السنوات الأخيرة، اعتمد النظام المصري على تشكيلات خاصة من الحرس الجمهوري وقوات مكافحة الإرهاب وكتائب "الصاعقة الخاصة" تحت إشراف مباشر من الرئاسة، دون خضوع فعلي للرقابة البرلمانية أو القضائية.
هذه الوحدات أصبحت أداة قمع داخلية تُستخدم في فض المظاهرات وتأمين المشروعات الكبرى، أكثر من كونها وحدات قتالية في جبهات خارجية.
ويرى مراقبون أن هذا التوسع في القوات غير النظامية يفتح الباب أمام نشوء "طبقة عسكرية موازية"، لا تدين بالولاء للمؤسسة العسكرية بقدر ولائها للرئيس وبعض رجال الأعمال المتحالفين معه.
ومع الوقت، قد تتحول هذه الكتائب إلى مراكز نفوذ مستقلة، خصوصاً إذا ضعف النظام أو دخل في أزمة سياسية، كما حدث في السودان حين انقسمت الأجهزة بين البرهان وحميدتي.
انتهاكات سيناء.. جرس إنذار مبكر
تُوثق منظمات حقوقية مصرية ودولية، مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة سيناء لحقوق الإنسان، عشرات الحالات من الاختفاء القسري والإعدامات خارج القانون في شمال سيناء خلال العامين الماضيين.
وتشير التقارير إلى أن من يُنفذ هذه العمليات ليس الجيش النظامي، بل عناصر ميليشياوية محلية تعمل بتنسيق غير معلن مع القوات الرسمية.
في يونيو الماضي، كشفت صور أقمار اصطناعية عن تدمير قرى بأكملها في رفح والشيخ زويد، بزعم ملاحقة إرهابيين، رغم أن سكانها المدنيين كانوا قد نُقلوا قسراً.
وتُظهر شهادات الناجين أن من أشرف على هذه العمليات هم أفراد تابعون لشركات أمنية ومجموعات العرجاني، وليس الضباط النظاميون، ما يعزز المخاوف من أن الدولة تُفوّض مهامها الأمنية لكيانات خاصة بلا مساءلة.
من سيناء إلى الداخل المصري.. الخطر القادم
السيناريو الأكثر خطورة يتمثل في توسّع هذه المجموعات خارج سيناء، خاصة مع مشاركة شركات العرجاني في مشاريع داخل القاهرة ومدن القناة وساحل البحر الأحمر.
فامتلاك هذه الكيانات لمقاتلين مدربين وسلاحٍ خفيف ومتوسط يجعلها قادرة على التحرك في أي لحظة لخدمة مصالح سياسية أو اقتصادية.
وفي حال حدوث اضطراب داخلي أو احتجاجات واسعة، يمكن أن تُستخدم هذه القوات لقمع المصريين، خارج أي رقابة عسكرية أو قانونية، ما يعيد للأذهان مشهد “الميليشيات الرئاسية” في أنظمة عربية انهارت بسبب تضارب مراكز القوة.
ومع ضعف الشفافية وتهميش البرلمان والقضاء، تُصبح مصر مهيأة لتكرار نموذج السودان، حيث انقلبت أدوات النظام على النظام نفسه.
التحذير الأخير: لا دولة دون احتكار السلاح
تحذّر خبرات التاريخ من أن تعدد مراكز القوة المسلحة داخل الدولة يؤدي حتمًا إلى تفككها.
ففي السودان واليمن وليبيا، بدأت الأمور بميليشيات "موالية للنظام"، ثم تحولت إلى قوى متمردة بعد تغيّر موازين المصالح.
واليوم، يحذر محللون مصريون من أن استمرار سياسة تسليح الموالين، وتوسيع نفوذ رجال الأعمال ذوي الخلفيات القبلية أو الأمنية، يعني تفريغ الجيش من دوره الوطني وتحويله إلى مظلة شكلية لمجموعات خاصة قد تتقاتل لاحقًا على النفوذ والثروة.
وإن تجاهل ظاهرة الميليشيات الخاصة في سيناء وغض الطرف عن جرائمها ليس مسألة هامشية، بل تهديد وجودي لمستقبل الدولة المصرية.
فما يجري اليوم في أطراف البلاد قد يتحول غداً إلى حرب داخلية شاملة إذا قررت هذه القوى أن تفرض سطوتها على بقية المحافظات.
ومع تصاعد الفقر والاحتقان السياسي، ومع تفويض رجال مثل العرجاني صلاحيات أمنية بلا مساءلة، فإن السؤال لم يعد “هل يمكن أن يحدث ما حدث في السودان؟”، بل متى يبدأ الانفجار، ومن يملك السلاح لحسمه؟

