في الوقت الذي يحاول فيه نظام قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي الترويج لصورة "النهضة الثقافية" من خلال مشاريع كالمتحف المصري الكبير، تكشف التعيينات الأخيرة لمجلس أمناء المتحف عن واقع مختلف تماماً، حيث تحوّل المشروع الأثري الأضخم في الشرق الأوسط إلى ساحة نفوذ وفساد مالي وإداري. تعيين شخصيات يلاحقها تاريخ من الاتهامات في قضايا الفساد والمقاولات، يعكس عقلية السيطرة والتربح من المشروعات الوطنية تحت غطاء "الرموز الثقافية".
وجوه الفساد في قاعة المتحف
من بين أبرز الأسماء التي تضمها قائمة مجلس الأمناء، يظهر كل من زاهي حواس، خالد العناني، كحنون، وأحمد غنيم، وكلهم مرتبطون باتهامات تتعلق بالفساد وسوء الإدارة. اختيار هؤلاء، بحسب مراقبين، يؤكد أن النظام لم يعد معنيّاً حتى بمظاهر النزاهة، بل يعمد إلى مكافأة الولاء لا الكفاءة.
زاهي حواس، الذي لطالما قدم نفسه بوصفه "حامي الآثار المصرية"، يواجه منذ سنوات شبهات عديدة تتعلق بتسهيل تهريب قطع أثرية وتورط في صفقات بيع غير مشروعة. التحقيقات التي أُثيرت حوله في فترات سابقة تمّ إغلاقها دون تبرئة واضحة، ما يجدد التساؤلات حول علاقات النفوذ التي تحميه من المساءلة.
أما خالد العناني، وزير السياحة والآثار الأسبق، فيُتهم من قبل موظفين سابقين وخبراء آثار بأنه أضاع ثروة من التراث الوطني عبر قرارات إدارية كارثية. أبرزها مشروعات الترميم الفاشلة، ونقل قطع أثرية حساسة من دون معايير حفظ علمية، ما تسبب في تلف أجزاء نادرة من آثار المملكة القديمة في سقارة والجيزة.
المقاولات المشبوهة: المال أهم من التراث
تعسّف السلطة في اختيار أعضاء مجلس أمناء المتحف المصري الكبير كشف عن توظيف نفوذ سياسي ومصالح مالية على حساب الحفاظ على التراث. أحد الأسماء التي أثارت غضب العاملين في قطاع الآثار هو عضو مجلس الأمناء الذي ارتبط اسمه بشبكة من الفساد المالي والصفقات المشبوهة مع جهات تابعة للجيش. يُعرف هذا الشخص في الأوساط الثقافية بأنه "مقاول من الباطن"، يمرر المشاريع عبر وسطاء لا يمتلكون أي خبرة أثرية حقيقية، مما أدى إلى تضخم ميزانيات غير مبررة وتأجيل افتتاح المشروع لأعوام متتالية. وأكدت مصادر من داخل وزارة السياحة والآثار أن تعيينه لم يكن لمهاراته الفنية بل جاء نتيجة ضغوط أمنية واقتصادية تنسجم مع شبكة مصالح مترابطة بين رجال أعمال مقربين من النظام والمؤسسة العسكرية.
الشيخ طحنون بن زايد: رجل استثمارات إماراتي في قلب المتحف المصري
الشيخ طحنون بن زايد، نائب حاكم أبو ظبي ومستشار الأمن الوطني الإماراتي، عضو في مجلس أمناء المتحف المصري الكبير، له استثمارات واسعة داخل مصر تتركز في قطاعات البنية التحتية والطاقة والتكنولوجيا. يُعتبر شخصية جدلية بامتياز، حيث يقود إمبراطورية اقتصادية تضم أصولًا حكومية وصناديق خاصة بقيمة تريليونات الدولارات، ويشرف على كيان استثماري ضخم مثل شركة "القابضة" (ADQ) التي استثمرت مليارات الدولارات في مصر، منها مشاريع ضخمة لتحويل مناطق استراتيجية إلى وجهات سياحية واستثمارية. دوره في مجلس الأمناء يعكس النفوذ الذي تمارسه أبو ظبي عبر أدوات الاستثمار في المشاريع الوطنية المصرية، وأسس علاقات وثيقة مع المؤسسة العسكرية والاقتصادية في مصر. هذا النفوذ يثير مخاوف واسعة حول تحوّل المتحف الكبير إلى أداة لاستثمار مصالح خارجية بدلاً من كونه مؤسسة ثقافية تعتز بالميراث المصري.
أحمد غنيم: واجهة تكنوقراطية لمقاولات عسكرية
أحمد غنيم، المدير التنفيذي السابق للمتحف، يمثل نموذجاً آخر لما يُعرف بـ"التكنوقراط التابعين للسلاح". ورغم تخرّجه في مجالات الإدارة والاقتصاد، إلا أن مسيرته انتهت في قلب صفقات المقاولات مع شركات تابعة للجيش، ما جعل كثيراً من العاملين يصفون دوره بأنه "غطاء إداري لتسهيل العقود الباطنية".
الوثائق التي تسرّبت خلال عامي 2023 و2024 كشفت عن تعاملات مالية بين إدارة المتحف وعدة شركات مقاولات تمت بطرق غير شفافة، إحداها لشركة مملوكة لضابط سابق في الهيئة الهندسية. هذه الصفقات منحت غنيم ثقة السلطة لكنها سحبت منه مصداقيته أمام المجتمع الثقافي.
المتحف: مشروع وطني أم غنيمة للنظام؟
تحوّل المتحف المصري الكبير من مشروع وطني لكشف تاريخ مصر إلى غنيمة يتقاسمها المقرّبون من السلطة. المشروع الذي تجاوزت كلفته 1.2 مليار دولار لم يكتمل رغم مرور أكثر من 20 عاماً على انطلاقه. التأجيلات المتتالية ترتبط بإعادة توزيع العقود والمناقصات وليس فقط بالعقبات الفنية.
خبراء في الشأن الثقافي يشيرون إلى أن المتحف أصبح نموذجاً مصغراً لواقع الدولة المصرية اليوم: مشاريع ضخمة تُدار بعقلية أمنية وتجارية، يختلط فيها المال العام بالمصالح الخاصة. فبدلاً من أن يكون المجلس العلمي الموجّه للمتحف من علماء آثار مستقلين، أصبح مجلساً سياسياً يخضع لتوجيهات الرئاسة ودوائر النفوذ الاقتصادي.
أصوات من داخل الوزارة: الغضب الصامت
عدد من العاملين بوزارة السياحة والآثار عبّروا في أحاديث غير رسمية عن استيائهم من التعيينات الأخيرة، معتبرين أن المجلس الجديد يفتقر إلى النزاهة والخبرة العلمية. أحد الموظفين قال إن "المتحف تحوّل إلى شركة تجارية لإدارة الصفقات، لا مكان فيه للباحث الجاد أو الأثري الشريف".
مصادر أخرى تؤكد أن كل من يعارض هذه السياسة يتم تهميشه أو نقله بعيداً. ويرى بعض الخبراء أن هذا المناخ الخانق أدى إلى هجرة العديد من الكفاءات الأكاديمية إلى الخارج، وترك فراغاً هائلاً في قطاع إدارة الآثار المصرية.
الخلاصة: المتحف أسير الفساد والمحسوبية
ما يحدث داخل مجلس أمناء المتحف المصري الكبير ليس سوى انعكاس للفساد الهيكلي الذي يضرب مؤسسات الدولة المصرية منذ عهد السيسي. فبينما يُروّج النظام لإنجازاته عبر صور الاحتفالات الرسمية والافتتاحات المؤجلة، تتآكل معايير النزاهة والشفافية في كل تفاصيل الإدارة.
إن مصير المتحف المصري الكبير اليوم لا تحدده الجدارة العلمية أو الحب الوطني للآثار، بل تتولاه طبقة ضيقة من المقاولين والموالين الذين أحالوا التراث إلى مشروع استثماري لخدمة مصالحهم الخاصة.


 
						
											 
 
					     
 
					     
									 
									 
									