في خطوة مفاجئة أثارت الكثير من التكهنات والانتقادات، تسلمت مصر رئاسة المنظمة الدولية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة "الإنتوساي" لمدة ثلاث سنوات.
هذا المنصب الرفيع جاء في وقت لا تزال فيه مصر تكافح سمعة سيئة في مؤشرات الفساد العالمي، حيث تتراجع في ترتيب الشفافية وتزداد اتهامات الفساد والمحسوبية فيها.
في بلد تغيب فيه الرقابة الحقيقية وتنتشر ظواهر المحسوبية والرشاوى داخل المجالس النيابية والجهات الرقابية، فإن تسلم القاهرة لهذا المنصب يثير علامات استفهام كبيرة حول مدى قدرة الجهاز الرقابي المصري على تقديم نموذج يُحتذى به عالمياً، خاصة وأن الواقع الداخلي يكشف معاناة المواطنين من فساد يستشري بلا توقف.
واقع مصر في مؤشرات الفساد والشفافية العالمية
تشير تقارير منظمة الشفافية الدولية لعام 2024 إلى تراجع مصر في مؤشر مدركات الفساد إلى المرتبة 130 من أصل 180 دولة، وهو أسوأ مركز تسجله خلال 12 عاماً، حيث حصلت على 30 نقطة فقط من 100، ما يدل على غياب كبير لمعايير الشفافية والرقابة داخل المؤسسات العامة.
هذا التراجع الكبير يعكس حالة مستمرة من الفساد الذي يستشري في قطاعات مختلفة، منها القطاع المالي والمصرفي الذي يتصدر نسبة الفساد بأكثر من 37%.
كما تؤكد تقارير أخرى على تزايد الرشاوى والمحسوبية التي تشل فاعلية الرقابة الداخلية والخارجية، مما يزيد الفجوة بين ما تعلنه الحكومة رسمياً وبين واقع الأداء على الأرض.
الرشوى والمحسوبية تحكم المشهد
في ظل هذا الواقع، برزت الكثير من التكهنات والاتهامات حول وجود رشاوى دولية ومحلية تؤثر على مراكز القرار الرقابي.
حيث تخصصت الاتفاقيات الدولية لمحاربة رشوة الموظفين العموميين، بما في ذلك المسؤولين في المؤسسات الدولية، في مواجهة هذه الظاهرة التي لم تعد مجرد تهديد داخلي لدولة واحدة، بل تجارة ربحتها مافيات محلية ودولية.
وتبين الدراسات القانونية والأكاديمية كيف أن انتشار الرشوة داخل الأجهزة الرقابية وحكامها يعطل القدرة على مكافحة الفساد، ويحول هذه الأجهزة إلى أداة لتمرير مصالح الفاسدين.
تعيينات المحسوبية وأثرها الكارثي على الرقابة
المأساة الأكبر أن غالبية مجالس أجهزة الرقابة في مصر يتم تعيين أعضائها بناءً على روابط المحسوبية والولاءات وليس على أساس الكفاءة أو النزاهة.
هذا الأمر يتعارض تماماً مع قيم الحيادية والاستقلالية التي يُفترض أن تميز مؤسسات الرقابة، ويجعلها عُرضة للتوجيه والتأثير من الجهات السياسية والاقتصادية.
وهو ما يناقض تصريحات المسؤولين الحكوميين الذين يزعمون التزامهم بالشفافية ومحاربة الفساد، ويترك الباب مفتوحاً لاستمرار حالة الإهمال والتواطؤ.
تسلم رئاسة "الإنتوساي": دعاية إعلامية أم خطوة عملية؟
اعتبرت الحكومة تسلم مصر رئاسة منظمة "الإنتوساي" إنجازاً دولياً يعكس مكانتها الريادية في مجال الرقابة المالية والمحاسبة، ويُبرز التزامها بتعزيز الشفافية ومكافحة الفساد، خاصة مع تسارع التحديات الاقتصادية العالمية.
إلا أن العديد من الخبراء والمراقبين يشككون في صدقية هذا التوجه، خاصة أنه لا يترافق مع إصلاحات جوهرية على صعيد جودة وانسجام الرقابة الداخلية، بل غالباً ما يستخدم كأداة للدعاية الإعلامية الخارجية، فيما تستمر ملفات الفساد الداخلية في الازدهار.
الخلاصة: بين الطموح وتحديات الواقع
بينما تستلم مصر زمام الرئاسة لمنظمة دولية رفيعة المستوى على الورق، يعاني المواطن المصري من فساد مستشري يعيق التنمية ويحبط الثقة في المؤسسات. غياب الرقابة الحقيقية وتفشي المحسوبية يربك صورة الدولة ويجعل حتى أرقى المنظمات الدولية تواجه تحديات حول مدى التزام مصر بالشفافية فعلًا.
في بلد تتسلم فيه الرئاسة الدولية للرقابة بينما يحتل المركز 130 عالمياً في مؤشر الفساد، يبقى السؤال مطروحاً: هل هذه مجرد دعاية تخفي أزمات متجذرة أم بداية حقيقية لإصلاح شامل؟
المطلوب اليوم ليس فقط رفع الشعارات، بل محاربة الرشوة على كل المستويات، وإعادة بناء مؤسسات الرقابة على أسس حيادية ونزاهة تضمن حق الشعب في محاسبة فاعلة.


 
						
											 
 
					     
 
					     
									 
									 
									