عمر سمير
كاتب وباحث مصري
قبل أيام، وضمن مهازل "الترندات" المصرية المختلفة، أطلت علينا فتاةٌ وأمُّها في فيديو قصير، تتهكّمان فيه على ما تقولان إنه شاب مهندس ميكانيكي، تقدّم للزواج، لكنّ ظروفه الاجتماعية والأسرية متواضعة، ولا يمتلك سيّارةً وشقّة، ليُتداول الفيديو على نطاق واسع ضمن أطر من النقد، والنقد المضادّ، وكأنّ ملكية السيارة والشقّة من المتطلبّات الأساسية التي لا يصحّ الزواج من دونها في برّ مصر المحروسة. نالت السيدة وابنتها نصيبهما من النقد الحادّ واللاذع من الجميع، مع بعض مدافعين عنهما على الهامش، لتخرجا بعد أيام وتقولان إنه كان حلمًا، وإنه لا يخصّ الفتاة التي ظهرت في الفيديو، واحتسبتا الأمر عند الله عن جميع من تداول الفيديو وانتقدهما. كانت ردودهما متهافتةً أكثر من الفيديو الأصلي، وليس هذا ما يهمنا، فالموضوع كلّه كأيّ "ترند" مصري مُربِك، إذ ظهر أشخاص يدّعون أنهم تقدّموا لخطبة ابنتها، وأن الله قد انتقم لهم منها. يريد بعضهم بالطبع أن يركب "موجة الترند"، لكن المهم هنا أن الفيديو، والجدل حوله، عبّر عن أزمة حقيقية في المجتمع المصري.
جوهر هذه الأزمة القدرات الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة للشباب، ولمعظم فئات المجتمع المصري، مع الفصام بين الشباب وجيل الكبار من الأهالي، وعدم الإدراك الحقيقي للمواقع الطبقية للناس، فإذا علمنا حقيقة الأجور المطروحة في السوق المصرية للمهندسين والأطبّاء والمدرّسين، ستزول الغرابة، وتصبح معها صدمة بعضهم، ممّن يتعالون على هذا الواقع أو ينكرونه أو يحاولون أن يعيشوا في خيالات بعيدة عنه، كبيرة حقًّا.
قبل شهر، أشارت استنتاجات نشرها موقع مدى مصر حول الفقر والفقراء إلى أن 34% من المصريين فقراء في 2021-2022، أي قبل إضافة تأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية التي زادت الطين بِلَّةً، بحسب خبراء، لتصل النسبة نحو 36% في 2025، بينما تشير تقارير البنك الدولي إلى أن نحو 66% من المصريين تحت خطّ فقر (يحصلون على 6.85 دولارات يوميًا)، وهذا يشمل أكثر من 72 مليون مصري ومصرية. وتفيد تقارير أخرى بأن حوالى 90% من الأسر المصرية تعيش بدخل شهري أقلّ من 6500 جنيه مصري، أي أقلّ من 135 دولارًا شهريًا.
لا يخصّ الوضع إذن المهندسين وحدهم، فقبل أيام انتشر منشور عن فتاة وزوجها يعملان صيدلانيَّين، ولا يكادان يلتقيان في المنزل ساعةً واحدةً يوميًا، لعمله دوامين، وطول ساعات عملها، ولا يتمكّنان من اللحاق بقطار الزيادات في المصروفات، رغم أن لديهما طفل واحد، وهذا موقفٌ أكثر تعبيرًا عن الوضع الاقتصادي الحالي في البلاد. وبطبيعة الحال، بطالة الشباب في مصر والمنطقة العربية ضمن المعدلّات الأعلى عالميًا. فرغم تبشير أحدث تقارير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بانخفاض معدّل البطالة، من 7% خلال عام 2023 إلى 6.6%، إلّا أن التقرير نفسه يوضح أن معدّل البطالة بين الشباب في الفئة العمرية (15- 29 سنة) بلغ 14.9% من إجمالي قوة العمل في الفئة العمرية نفسها، وبلغ معدّل البطالة بين الذكور 9.8%، وبين الإناث 37.1% من إجمالي قوة العمل في الفئة العمرية نفسها عام 2024
.
إذا ما استبعدنا حقّ المتعطّلين عن العمل في الزواج وممارسة حياتهم الاجتماعية، فإنّ معدّلات الأجور في مصر هي ضمن الأسوأ عالميًا، سواء للأطباء أو للمهندسين أو للمعلمين وغيرهم، فالمتوسّطات تشمل الجميع، وهي أرقام مخزية، وهذا الاستبعاد ليس منطقيًا في مجتمعات مغلقة، إذ إنّه يعني استبعاد أكثر من حوالى 15% من الشباب البالغين، وبالتبعية أكثر من 37% من الفتيات. هؤلاء مستبعدون تمامًا من قواعد التملّك في السوق النيوليبرالية، فإذا لم يحصلوا على حصص من مواريث أو استثمارات عائلية، فأنى لهم الحصول على شقة أو سيارة؟
وعلى صعيد آخر، نجد أنه لا يكاد يوجد إعلان لشقّة تمليك في مصر بأقل من مليون جنيه (حوالى 20 ألف دولار) في حواري المناطق الشعبية، ومراكز مدن الأقاليم، فكيف لـ90% من الأسر التي تعيش على الدخول الهزيلة التي أشرنا إليها أن تحصل على تلك المبالغ لشراء شقة؟ ناهيك عن سيارة لن تقلّ كثيرًا عن ثمن الشقّة، فالسيارات في مصر وأسعارها مبالغ فيها جدًّا بسبب التعرِفات الجمركية والضرائب واحتكارات قلّة من المورّدين، وسياسات التراخيص وغيرها، حتى إن مصروف السيارة شهريًا يكاد يوازي مصروف الأسرة تمامًا. وفي هذا الإطار، يستعمل المصريون، في الغالب، السيارات الرديئة المتاحة في السوق المحلّية، ويضاربون عليها بيعًا وشراءً على نحوٍ قد لا تجد نظيرًا له عالميًا، وعادة ما تجد سعر سيارة مستعملة في مصر أعلى بكثير من أسعار سيارات جديدة في بلدان الخليج العربي، وبلدان أخرى إذ لا توجد هذه الرسوم الجمركية والضريبية المتضخّمة كلّها.
وعلى كلٍّ، تفيد البيانات بأن هناك عشرة ملايين مركبة مرخّصة في مصر فقط، وبالتالي، لا تملك الغالبية العظمى من الأسر سيارة، وبالتأكيد لا يملك معظم الشباب سيارات. وإذا علمنا أن متوسّط سنّ الزواج في مصر (وفقًا لأحدث نشرة إحصائية للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء) زاد عن 30 عامًا. بالتالي، علينا أن نفكّر في كيف لشاب لم يمضِ في العمل أكثر من ثماني سنوات بمعدّلات الأجور الحالية أن يشتري شقّة وسيارة، وهو لم (ولن) يتحمّل أقساط تلك الأشياء بافتراض أنه وجد السياق المالي والبنكي اللازم للحصول عليها، وبالتالي إذا تمسّكنا بهذه الاشتراطات غير المنطقية من تملّك سيارة وشقّة، فإننا نستبعد الغالبية الساحقة من الشباب، الذين لم يرثوا، وإن ورثوا فقد يرثون الفقر والديون من عائلاتهم، أو إذا كانوا من عائلات أمورها جيّدة وهم قلّة، فإنهم سيعيشون في ديون مادية ومعنوية للعائلة تكبّلهم عقودًا، وهذا ما يحدُث غالبًا. وفي المقابل، يرفض جيل "السوشيال ميديا" الزواج والسكن في بيت العائلة، ويقدّس الفردانية المطلقة، وتعرقل أفكاره وسلوكياته كثيرًا من أشكال التضامن الأسري التقليدية مع الأسف!.
ما نريد قوله إنّ على الأهالي جميعًا التعايش مع هذه الحقائق حول الفقر، وأن تتكيّف معها، فلا تكلّف الشباب بما لا يطيقون، فمعدّلات الزواج نفسها في اتجاه الانخفاض، ومعدّلات الطلاق مرتفعة جدًّا، وهي في السنوات الأولى شديدة الارتفاع، سواء نتيجة الظروف الاقتصادية والاجتماعية، أو للقوانين السيئة، وللخطاب النسوي السطحي الذي ينتشر كالنار في الهشيم، ويحلّق بعيدًا من الواقع ومن إدراك تلك الظروف، ويريدون "سوبرمان"، وليس شابًّا يواجه هذه السياسات النيوليبرالية. علينا جميعًا التفكير في مخرج جماعي من تلك السياسات، لا البحث المتوحّش عن أكبر مكاسب ممكنة على حساب الآخرين، كما تفعل بعض الأسر، برفع شروط الزواج وتوقّعاتهم في ضوء ركود كبير في سوق الزواج، ورواج كبير لسوق العلاقات المفتوحة في عصر "تيك توك" والسوشيال ميديا.
وعلى الحكومة أيضًا ألّا تحاول إخفاء (وتغييب) الحقائق حول الفقر، فتوجّه الحكومة إلى إخفاء نتائج بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك سنوات، والاعتماد على مؤشّر الفقر متعدّد الأبعاد، بديلًا من المؤشّر النقدي التقليدي، لن يفيد كثيرًا إذ يستطيع خبراء وباحثون من كل العالم تقدير النسب الحقيقية بالاعتماد على السلاسل الزمنية، والبيانات التي تقدّمها الحكومة للمؤسّسات المالية الدولية، بالإضافة إلى تقديرات تلك المؤسّسات نفسها.
علينا جميعًا أن ندرك مواقعنا الطبقية في الصراع مع السياسات النيوليبرالية، وألّا نتوهم مواقع طبقية أفضل، وأن هذه المشكلات البنيوية لن تحلّ بالسخرية ولا بالتعالي عليها، وأن يدرك متوسّطو الحال، والأغنياء أيضًا، ألّا طريقَ للنجاة الفردية في هذه البلاد، فالسياسات الاقتصادية الحالية تولّد مزيدًا من الفقر والتفاوت والتباغض والرغبة في الانتقام، وهي كارثية على الجميع مهما بدا بعضهم غير منتبه أو مهتمٍّ بها.