في الزنازين الضيقة، حيث يختلط صدى الأبواب الحديدية بصوت الأنين المكتوم، يعيش آلاف السجناء السياسيين في مصر سنوات طويلة من الحرمان والتجريد من الحقوق الأساسية. قصصهم لا تتوقف عند حدود التهم الرسمية أو المحاكمات الجماعية، بل تمتد إلى تفاصيل إنسانية يومية: حق مهدور في العلاج، زيارة عائلية محرومة، أو محاكمة يشوبها الغموض. بين هؤلاء السجناء يبرز خمسة أسماء من أبرز قيادات جماعة الإخوان المسلمين، تحوّلت حكاياتهم إلى رموز لمعاناة سياسية وإنسانية ممتدة منذ 2013 حتى اليوم.

 

الدكتور محمد بديع.. مرشد الإخوان في مواجهة السجن المؤبد

تجاوز الدكتور محمد بديع، المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، الثمانين عامًا، وهو يقضي أحكامًا متراكمة تصل إلى المؤبد في قضايا متفرقة. الرجل الذي كان يقود الجماعة الأكبر في مصر، يقبع اليوم في عزلة شبه تامة داخل أحد السجون شديدة الحراسة.

الاتهامات الرسمية بحقه تتراوح بين التحريض على العنف والمشاركة في أحداث دامية أعقبت فضّ اعتصامي رابعة والنهضة عام 2013. غير أن منظمات حقوقية محلية ودولية أكدت أن المحاكمات التي خضع لها شابتها خروق إجرائية، بينها غياب الضمانات الكافية لحق الدفاع.

عائلته تقول إنه حُرم من الرعاية الطبية اللازمة لأمراض مزمنة في القلب والمعدة، وأن زياراته تُقيد بشكل صارم. صموده في السجن يُروى على لسان محاميه وذويه، لكنه في نظر الكثيرين أصبح رمزًا لجيل كامل من السجناء السياسيين الذين يواجهون محاكمات جماعية وظروف احتجاز قاسية.

 

الدكتور محمود عزت.. قليل الكلام كثير الفعل

على مدى سبع سنوات، ظل الدكتور محمود عزت، القائم بأعمال المرشد العام بعد اعتقال بديع، مطاردًا حتى ألقي القبض عليه في أغسطس 2020.

القضاء الانقلابي أدانه في قضايا وُصفت بالإرهاب، أبرزها التخطيط لأعمال عنف بعد 2013، وصدر بحقه حكم بالسجن المؤبد. لكن تقارير المنظمات الحقوقية أكدت أن جلسات محاكمته اتسمت بالسرعة، وأن الأدلة لم تكن كافية لتبرير العقوبات القاسية.

ومنذ اعتقاله في أغسطس 2020، يعيش محمود عزت، البالغ من العمر 81 عاماً، في زنزانة انفرادية داخل سجن بدر 3، وسط ظروف صحية قاسية. تقارير حقوقية أكدت أنه ممنوع من الزيارة والاتصال بأسرته أو محاميه، وتتم محاكمته داخل قفص زجاجي خاص يعزله عن التواصل الطبيعي مع الدفاع.

وتؤكد أسرته أن حالته الصحية تتدهور مع تقدمه في العمر. بالنسبة لحقوقيين، يمثل عزت مثالًا صارخًا على «الحبس الانتقامي» الذي يستهدف رموز المعارضة أكثر مما يسعى إلى العدالة.

 

الدكتور محمد البلتاجي.. الطبيب الذي حوّل زنزانته إلى منصة احتجاج

محمد البلتاجي، الطبيب والبرلماني السابق، اعتُقل منذ 2013 على خلفية اتهامات بالتحريض على العنف. صورته الشهيرة إلى جانب ابنته أسماء، التي قُتلت خلال فضّ اعتصام رابعة، لا تزال محفورة في الذاكرة الجمعية للمعارضة المصرية.

البلتاجي حكمت عليه محاكم انقلابية في أكثر من قضية، بينها السجن المؤبد. غير أنه اختار وسيلة احتجاجية مختلفة: الإضراب المتكرر عن الطعام. عبر تلك الخطوة حاول أن يلفت الأنظار إلى ظروف احتجازه التي وصفها محاموه بـ«القاسية والمهينة».

التقارير الحقوقية تحدثت عن حرمانه من العلاج اللازم لآلام مزمنة، ومنع عائلته من زيارته لفترات طويلة. قصته تعكس صورة إنسانية مؤلمة: أب ثكِل، طبيب مسجون، ومعارض سياسي يعيش سنوات شبابه الأخيرة خلف القضبان دون محاكمة عادلة.

 

المهندس خيرت الشاطر.. رجل الأعمال وإستراتيجيي التنظيم

يعتبر المهندس خيرات الشاطر، نائب المرشد السابق، من أحد أبرز رجال الأعمال في مصر، وهو من أكثر الشخصيات التي أثارت جدلًا بعد اعتقاله عام 2013. الرجل الذي كان يمتلك شركات ومشاريع تجارية واسعة، وجد نفسه بين ليلة وضحاها متهمًا في قضايا «إرهاب وتمويل».

القضاء الانقلابي حكم عليه بالسجن المؤبد في أكثر من قضية. مصادر حقوقية أكدت أن ممتلكاته صودرت وأن عائلته تعرضت لمضايقات عديدة.

اليوم، يعيش الشاطر سنوات سجنه الطويلة في ظروف مشددة، مع حرمانه من متابعة حالته الصحية أو لقاء عائلته بشكل منتظم. قصته تحولت إلى مثال على كيف يمكن أن تُفقد الحرية والثروة والمكانة الاجتماعية دفعة واحدة، في ظل نزاع سياسي محتدم.

 

أنس البلتاجي.. الحكاية الأكثر وجعًا

أنس، نجل الدكتور محمد البلتاجي، يُعتبر من أبرز النماذج على سياسة «التدوير» أو إعادة فتح قضايا جديدة للإبقاء على المعتقلين خلف القضبان رغم حصولهم على البراءة. اعتُقل أنس وهو في مقتبل العمر، وقضى أكثر من عشر سنوات متنقلًا بين السجون، رغم صدور أحكام بالبراءة في قضايا عدة.

منظمات حقوقية اعتبرت حالته «تجسيدًا للفشل القضائي»، حيث لم يعد مجرد متهم في قضية واحدة، بل بات رهينة لدوامة لا تنتهي من الاتهامات والتجديدات. عائلته تروي معاناته من الحبس الانفرادي وحرمانه من التعليم الجامعي ومن حقه في حياة طبيعية.

قصته تُعيد إلى الأذهان الوجه الإنساني الأكثر قسوة للاعتقال السياسي، حين يُسجن الشباب لأنهم أبناء معارضين أو مرتبطون بهم.

 

صورة أوسع: انتهاكات ممنهجة

ما بين هذه القصص الفردية، تبرز صورة أكبر من الانتهاكات الموثقة:

  • محاكمات جماعية تضم مئات المتهمين دفعة واحدة، ما يقوّض معايير العدالة.
  • الحبس الاحتياطي الممتد الذي يتحول إلى عقوبة بحد ذاته، عبر تجديد متكرر يمنع السجناء من الخروج.
  • العزل الانفرادي لفترات طويلة، والذي يُعتبر شكلًا من أشكال سوء المعاملة بحسب المعايير الدولية.
  • الحرمان من الرعاية الصحية، حيث وثقت منظمات مثل «أمنيستي» و«هيومن رايتس ووتش» حالات وفاة وإهمال طبي متعمد.
  • تقييد الزيارات ومنع العائلات من التواصل مع أبنائها، ما يزيد من الضغط النفسي على السجين وأسرته على حد سواء.

 

الحرية المؤجلة

حكايات بديع وعزت والبلتاجي والشاطر وأنس ليست سوى نماذج من آلاف السجناء السياسيين في مصر. كل اسم يحمل خلفه قصة من الألم والفقد والحرمان، وكل زنزانة تخفي وراء جدرانها إنسانًا يعيش بأمل الخروج إلى النور.

المنظمات الحقوقية المحلية والدولية تواصل دعواتها للإفراج عن السجناء السياسيين وضمان محاكمات عادلة، فيما تستمر السلطات الانقلابية في مصر بالتمسك بروايتها الرسمية حول «مكافحة الإرهاب». لكن الواقع الإنساني يقول شيئًا آخر: أن السجون تحولت إلى مقابر صامتة للأحلام والحقوق.

إنها ليست قضية سياسية فحسب، بل قضية إنسانية ووطنية وحقوقية في المقام الأول، حيث يقف حق الإنسان في الحرية والكرامة في مواجهة آلة القمع والقيود الحديدية. وبين هذه الثنائية، يظل صوت الأسرى وعائلاتهم يطالب بالحرية، كحق لا يُمنح، بل يُنتزع.