طلعت رميح
كاتب صحفي
اعترف نتنياهو مؤخرا بعزلة إسرائيل دبلوماسيا واقتصاديا، وتحدث عن تأثير العزلة عن الأسواق العالمية، فتوقع أن تتبنى إسرائيل حالة الاقتصاد المغلق، وأن تعاني صناعات السلاح الإسرائيلية من حصار.
وتحدث ترامب عن تراجع تأثير اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، فقارن بين زمن لم يكن الأمريكي قادرا على التحدث ضد إسرائيل ـإذا أراد أن يكون سياسياـ وبين الوضع الراهن، مشيرا إلى أن الأمر تغير جذريا، وقال بدهشة: «قبل عشرين عاما كان لإسرائيل أقوى لوبي في الكونغرس، أما اليوم فلم يعد كذلك».
وطرح ترامب تقديرا مستقبليا، فقال إن إسرائيل قد تحقق انتصارا عسكريا، لكنها «لا تكسب الحرب الإعلامية».
وجاء اعتراف الدول الغربية بالجملة (بريطانيا وكندا وأستراليا وفرنسا والبرتغال) بالدولة الفلسطينية، ليترجم انعزال إسرائيل وخسارتها المعركة الدبلوماسية والسياسية والإعلامية.
هذه الاعترافات المتأخرة والتغييرات في الوضع الحالي لإسرائيل ـ من السيطرة إلى الانعزال ـ كانت مؤشراتها جلية في نسب استطلاعات الرأي العام، التي أظهرت انقلابا في المواقف الشعبية في الولايات المتحدة وأوروبا لمصلحة الشعب الفلسطيني، وهي مجتمعات كانت متأثرة بالدعاية الإسرائيلية على نحو حاسم.
كما جرت ترجمة هذا التغيير عبر تحركات في الشوارع ـ التي لم تهدأ لعامين متواصلين ـ دعما للشعب الفلسطيني، وفي تطوير وتعزيز قوافل البحر المتوجهة بتحدٍّ لكسر الحصار، وكان الأكثر لفتا للأنظار أن تمكن الإعلام الفلسطيني المقاوم من التأثير في الداخل الإسرائيلي على نحو غير مسبوق، رغم ما تفرضه السلطات العسكرية الإسرائيلية من قيود على النشر.
هنا طُرحت قضية «إعلام الأزمات»، إذ هُزمت خطط الإعلام الإسرائيلي والغربي، ونجح إعلام المقاومة، ووصل حد اكتساب المصداقية والقدرة على التأثير في مختلف شعوب العالم، إلى درجة عزل إسرائيل.
وأصبح واضحا أننا أمام حالة مستجدة من حالات دور الإعلام وتأثيره خلال إدارة الأزمات والحروب، إذا قارنا الحاصل الآن بما جرى خلال الحرب الأمريكية على أفغانستان والعراق.
أسباب انقلاب المعادلة؟
كان للجرائم التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي، والتصريحات المهووسة التي أطلقها نتنياهو وبن غفير وسموتريتش عن الإبادة والتهجير والقصف النووي، دور حاسم في تغيير مواقف الرأي العام الدولي، وانتقاله من التأييد الكامل للرواية الإسرائيلية إلى القناعة بعدالة ما يطلبه الشعب الفلسطيني ويقاوم من أجله.
لكن الجرائم لا تُرى بالعين إلا لأهل غزة، والناس خارجها لا يتأثرون بها إلا حين تُنقل إليهم من مصادر موثوقة، والإعلام الصهيوني هو المسيطر وصاحب السردية الطاغية في الإعلام الغربي «العولمي»، كما لم يكن لإعلام المقاومة منافذ واسعة للانتشار.
هنا ظهر دور وسائل التواصل وتأثيره والتفاعل الاجتماعي، التي حملت رسالة إعلامية مختلفة عبر الأخبار و”الفيديوهات” والتحركات والآراء، ووصلت بها إلى مدى غير مسبوق من التأثير في أنحاء العالم كله.
ومرة أخرى، فإن «إعلام» التواصل الاجتماعي ليست لديه قدرة على النقل من أرض غزة ـ إذ الإنترنت مقطوع عنها والكهرباء والمياه ولا يدخلها حتى الدواء والغذاء ـ، وهنا كان لشبكة الجزيرة والبث الحي لقنواتها دورها في نقل الجرائم وتوثيقها لحظة بلحظة، بما قدم لوسائل التواصل الاجتماعي ما ينقصها.
وكان لنمط إعلام المقاومة دور أساس، إذ وثق ما ينشره بالصوت والصورة، لقد اعتمدت المقاومة خطا وخططا إعلامية كان لها أثرها الكبير في نمط التأثير، والشاهد على ذلك هو هذا الموقف الشعبي الذي تبدي فور إعلان إسرائيل عن اغتيال المتحدث العسكري باسم كتائب عز الدين القسام، أبو عبيدة.
هزيمة الإعلام التقليدي أمام التواصل الاجتماعي
تحكي عملية التغيير التي جرت في مواقف الرأي العام الدولي قصة الصراع بين وسائل الإعلام الغربية المتأثرة بالنفوذ الصهيوني ـ وبعضها خاضع له ـ ووسائل التواصل الاجتماعي.
لقد تفوقت وسائل التواصل الاجتماعي وسجلت تغييرا نوعيا في دور الإعلام خلال الأزمات والحروب.
ونتيجة لتلك التجربة بات ممكنا القول إن الإعلام الفضائي بات إعلاما تقليديا، إذا قارناه مع «إعلام» التواصل الاجتماعي الذي لعب دورا ثوريا، إذ بات مزودا للأفراد بكل مضامين الإعلام الآخر ـ الفضائي ومواقع الصحف ووكالات الأنباء ومراكز الأبحاث ـ، وبكل ما ينشره الناس ولكل تحرك على الأرض بلمسة سحرية واحدة، وهو ما كسر حالة السيطرة الإعلامية.
تلك الانتقالة تشبه ما جرى حين تمكنت الفضائيات وشبكات الإنترنت من التفوق في التأثير على الصحافة الورقية، وللتشبيه، فنحن أمام حالة تقوم فيها وسائل التواصل والتفاعل الاجتماعي بالدور الذي أحدثته الطائرات المسيّرة في الحروب الأخيرة، على حساب وسائل الحرب التقليدية!
تمتلك وسائل التواصل الاجتماعي ميزات حاسمة، أهمها الوصول إلى المتابع أينما كان، وفي أي وقت، وهي توفر له فرصة الوصول إلى مصادر الأخبار دون الحاجة لأجهزة خاصة ـ مجرد هاتف ـ كما أدخلت مليارات البشر في صناعة الوعي وإبداع طرائق التأثير، عبر التفاعل لا التلقي فقط، وإذ مثل حاجز اللغة مانعا في حالة الإعلام التقليدي، فقد تمكن الذكاء الصناعي من إضعاف معوقات اللغة للتواصل بين البشر.
لقد كسرت وسائل التواصل والتفاعل الاجتماعي سيطرة الإعلام الغربي واحتكاره لمصادر الأخبار، ونفذت بالتأثير إلى المجتمعات الغربية. وهو ما وضع سرديات الإعلام الرسمي الغربي في مأزق، عالجته الحكومات في البداية بأعمال المنع والتقييد والحذف، لكن الأمر انتهى إلى تغيير الإعلام الغربي لسياساته الإعلامية.
انهيار مصفوفة إعلام الأزمات في الغرب
لقد بدأ الإعلام الغربي تعامله مع أحداث غزة بالترويج للرواية الصهيونية وتفعيل مصفوفة قواعد «إعلام الأزمات»، المستخلصة من خبرات الحرب العالمية الأولى والمعمول بها حتى الآن.
وتقوم قواعد العمل الإعلامي الغربي في الحروب على تصدير موقف الطرف الآخر في حالة المعتدي والبادئ بالحرب ـ حتى لو كانت دولها هي المعتدية ـ وعلى شيطنته وتصويره كمتوحش وهمجي، فيما تبرئ دولها وتظهرها في موقع المضطر لخوض الحرب، كما تبرر قتل المدنيين باعتباره عرضا من عوارض العمل العسكري، وتركز على أن دولها تخوض الحرب مضطرة ولتحقيق أهداف نبيلة: «الديمقراطية وحقوق الإنسان ومحاربة امتلاك أسلحة الإبادة»، وتعمل على تقليل خسائر جيوشها وتعظيم خسائر العدو… إلخ.
تلك القواعد هي التي سار عليها الإعلام الإسرائيلي والغربي فور الهجوم الاستراتيجي للمقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023.
ولذا، رأينا رسالة إعلامية تعدّ الجرائم الصهيونية فعلا مبررا ودفاعا عن النفس، ورأينا تنديدا بجرائم مختلقة من قتل واغتصاب، وترويجا لمقولة إن أهداف الجيش الإسرائيلي تتمثل في إنقاذ المنطقة من «الإرهاب الإسلامي» الذي تمثله (حماس)… إلخ.
لكن، وفيما كان الإعلام الغربي متمترسا عند قواعد إدارة الأزمات، كانت مليارات “الفيديوهات” الناقلة للجرائم الصهيونية المروعة تنتشر في أنحاء الدنيا كلها.
وجد الإعلام الغربي نفسه فاقدا للمصداقية، فحدث التحول الكبير في سياساته التحريرية.
سر تفوق إعلام المقاومة
قدّم إعلام المقاومة نموذجا موضوعيا وصادقا. لم يخفِ إعلام المقاومة انحيازه لقضية شعبه، لكنه كان موضوعيا في نقل ما يجري على الأرض، فاكتسب المصداقية، ومثل نموذج أبو عبيدة عنوانا بالغ التأثير.
لم نشهد حالات تهويل في خسائر عدو المقاومة، ولا تهويلا في قدرات المقاومة نفسها. قدّم إعلام المقاومة نموذجا بالغ الدقة في ذكر خسائر العدو، وجاء ذكر الخسائر موثقا بالصوت والصورة، وهو ما وسّع تأثير إعلام المقاومة ومصداقيته ومد تأثيره في الجمهور الإسرائيلي، حتى كان الإعلان عن بث شريط لأبي عبيدة أو لعملية من عمليات المقاومة كفيلا بتسمر الناس للمتابعة.