بينما تروج حكومة الانقلاب لمشروع القطار الكهربائي السريع باعتباره إنجازًا تاريخيًا يضع مصر على خريطة النقل العالمية، تكشف تفاصيل الصفقة الأخيرة عن وجه آخر للصورة: الاعتماد المفرط على الشركات الأجنبية لإدارة وتشغيل مشروعات عملاقة، وتهميش الشركات المصرية التي تمتلك خبرات وقدرات هائلة.
تسليم التشغيل للأجانب
الهيئة القومية للأنفاق تستعد لتسليم إدارة وتشغيل الخط الأول من شبكة القطار الكهربائي السريع لتحالف يضم شركة "دويتشه بان" الألمانية و"السويدي إليكتريك"، لمدة 15 عامًا قابلة للتجديد. هذا يعني أن مشروعًا تكلفته نحو 6.4 مليار يورو – معظمها قروض دولية مرهقة – سينتقل عمليًا إلى إدارة أجنبية لعقد ونصف كامل، مقابل التزام التحالف بالصيانة والتشغيل وإدارة الأنشطة التجارية.
الشركات المصرية على الهامش
الغريب أن مصر تمتلك بالفعل شركات عملاقة في مجال النقل والإنشاءات، مثل المقاولون العرب وأوراسكوم للإنشاء والسويدي للكابلات والطاقة نفسها، إضافة إلى الهيئة القومية للسكك الحديدية التي تدير شبكة تمتد آلاف الكيلومترات. ومع ذلك، تُقصى هذه الكيانات لصالح شركات أجنبية بحجة "الخبرة"، وكأن عشرات السنين من تشغيل السكك الحديدية لا تكفي لإدارة مشروع داخلي، حتى لو تطلب نقل تكنولوجيا حديثة.
من يدفع الثمن؟
المشروع تم تمويله عبر قروض ضخمة: 2.26 مليار يورو من 18 مؤسسة دولية، و318 مليون يورو من بنك التنمية الإسلامي، فضلًا عن ضمانات وكالتي "تنمية الصادرات الإيطالية والألمانية". أي أن الشعب المصري سيدفع فاتورة المليارات، بينما الأرباح والامتيازات ستذهب إلى شركات أجنبية، في مشهد لا يختلف كثيرًا عن عقود الامتياز التي شهدتها مصر في القرن التاسع عشر مع قناة السويس.
تشغيل أجنبي.. بأي منطق؟
تقول الحكومة إن الاستعانة بتحالف دولي يضمن "الكفاءة والجودة". لكن السؤال: أليس الأولى أن تُستثمر هذه المليارات في تطوير شركاتنا الوطنية، بدلاً من تسليم مشروع استراتيجي لشركات أجنبية ستتحكم في مسار النقل داخل الدولة لعقود؟ وهل يعقل أن يتحول مشروع يُفترض أنه رمز لـ"الجمهورية الجديدة" إلى مجرد امتياز أجنبي مموّل بالديون؟
نقل البضائع.. استنزاف إضافي
العقد ينص على نقل 9 ملايين طن من البضائع سنويًا اعتبارًا من 2027، ترتفع إلى 40 مليون طن بحلول 2030. نظريًا هذا نجاح اقتصادي، لكن عمليًا هو فتح سوق ضخم أمام تحالف أجنبي ليحتكر عوائد النقل، في وقت يعاني فيه قطاع النقل البحري والبري المحلي من أزمات مالية وفنية.
مفارقة سيمنز و"دويتشه بان"
المشروع من الأساس يتم تنفيذه عبر شركة سيمنز الألمانية بالتعاون مع "المقاولون العرب" و"أوراسكوم"، أي أن مصر دخلت بالفعل في شراكات بناء ضخمة مع الألمان. فما المبرر إذًا لإضافة "دويتشه بان" في التشغيل، وكأن المصريين غير مؤهلين لتسيير قطارات على أرضهم؟ أليس الأجدر أن تُفرض على الشركاء الأجانب خطط تدريب ونقل خبرات تُفضي في النهاية إلى إدارة مصرية كاملة؟
أبعاد سياسية واقتصادية
تسليم تشغيل مشروع حيوي بهذا الحجم لشركة أجنبية ليس قرارًا فنيًا فقط، بل سياسيًا بالأساس. فهو يرهن قطاع النقل المصري باتفاقيات طويلة الأجل، ويجعل أي خلاف سياسي أو اقتصادي مع الدول المالكة لهذه الشركات ورقة ضغط مباشرة على الدولة المصرية. وهو ما يُعيد إلى الأذهان تجربة الخصخصة في التسعينيات، حين بيعت شركات رابحة للأجانب بحجة التطوير، وانتهى الأمر بتجريف الصناعة الوطنية.
مشروع وطني تحت الوصاية الأجنبية
القطار الكهربائي السريع مشروع ضخم بلا شك، لكنه يعكس نموذجًا مقلقًا من الإدارة: الدولة تستدين بالمليارات، ثم تسلم إدارة المشروع للأجانب، بينما تكتفي الشركات المصرية بدور المقاول الفرعي. والنتيجة: عبء الديون على المواطن، والربح للشركات الأجنبية.
إذا كان هذا هو مستقبل "الجمهورية الجديدة"، فهو ليس إلا نسخة حديثة من سياسات التبعية التي رهنت مصر عبر عقود لمصالح خارجية، بدلًا من بناء قدرة وطنية مستقلة.