سيد أمين

كاتب صحافي مصري

 

شهادة وطنية حقيقية جديدة منحها الكيان الصهيوني اليوم إلى دولة قطر حينما استهدفت مسيَّراته أو صواريخه أحياءً في العاصمة الدوحة، قاصدًا اغتيال قادة الوفد المفاوض لحركة حماس حين كان يناقش مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، لكن شاءت الأقدار أن ينجو الجميع، ويبقى استهداف الدول الحرة ومدنييها وصمة عار في جبين قادة هذه الدولة المارقة المدعومة من أعتى جبابرة الأرض.

الشهادة تأتي من أن الدول العربية في نظر الكيان نوعان: نوع تمرح فيها جالياته ووفوده ومراكز أبحاثه وجواسيسه ويُستقبلون استقبال الأهل وأصحاب الدار، ودول أخرى تتسلل خلسة فيها صواريخه ومسيَّراته لتقصف مبنى هنا أو هناك وتفر هاربة أو تسقطها الدفاعات الأرضية. ونعلم أن الفرق بين هذه وتلك كالفرق بين الثري والثريا، وشاءت الأقدار أن تؤكد قطر موقعها في منطقة الثريا.

هذا التموضع لم ينشأ فقط على إثر تداعيات طوفان الأقصى، فإسرائيل فعلت بعده تمامًا كما كانت تفعل قبله، فقد اغتالت سلسلة طويلة من طواقم إعلاميي قناة الجزيرة في غزة بعده، ومنهم على سبيل المثال أنس الشريف والغول وأسرة الدحدوح، كما قتلت قبله شيرين أبو عاقلة. وكان هدفها الدائم إخراس شبكة الجزيرة القطرية التي كان لها نصيب الأسد في تعرية وجهها القبيح عالميًّا، وحطمت “السردية” التي رسختها الصهيونية لدى الغرب طيلة عقود مضت.

يُنتظر من الأشقاء العرب، خاصة في مجلس التعاون الخليجي، عدم الاكتفاء بإدانة هذه الضربات، بل القفز نحو قطع كل أشكال التعاون مع الكيان، وإثبات أن المجلس كتلة واحدة ضد استهداف مكوناته.

ولعل هذه الضربات ليست بمثابة رسالة إرهاب صهيونية إلى وفد الحركة المفاوض، ولا لدولة قطر فقط، ولكنها رسالة صهيونية إلى الأنظمة كافة في الشرق الأوسط، طبقًا لما عبَّر عنه صراحة رئيس الكنيست الإسرائيلي أمير أوحانا الذي نشر “فيديو” للقصف، وقال إنه بمثابة رسالة إلى الشرق الأوسط بأسره.

 

علاقات غير حميدة

وتدرك إسرائيل، كما يدرك أي مراقب منصف، أن العلاقات التي تربطها بقطر لا تصب أبدًا في صالحها، كما في نماذج علاقاتها السرية والمعلنة مع دول عربية وإسلامية أخرى، وذلك أن قطر تستخدمها في إطار تمثيل القضايا العربية والدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، والقيام بالوساطات بينه وبين فصائل المقاومة الفلسطينية، وليس في إطار مساعي طمس القضية والعبور فوق جثتها. ومن ثَم، فهذا ليس تطبيعًا حميدًا بالنسبة لها.

والحقيقة أن دور الوساطة، الذي تمارسه قطر بين وفد المقاومة الفلسطينية المفاوض والمستهدف بمحاولة الاغتيال الدنيئة والكيان الصهيوني، هو دور يهم الكيان بالقدر نفسه الذي يهم المقاومة، خاصة مع تعثره البالغ في غزة، وقيام المقاومة بتحطيم أسطورته العسكرية التي أجبر بها المنطقة العربية قاطبة زمنًا طويلًا، وصار الجميع يعلم أنه لولا الدعم الأمريكي والغربي له لكسرته المقاومة منذ زمن بعيد.

ولذلك فهذه الضربة تأتي في إطار كراهية الكيان لأدوار دولة قطر العربية بعد الطوفان وقبله. وفيما يبدو أن من أشعل نار الاختلاف بين قطر وأشقائها العرب من قبل وأثناء ولاية ترامب الأولى للبيت الأبيض، هو نفسه من أعطى الضوء الأخضر للاعتداء الصهيوني على دولة مستقلة وذات سيادة هذه المرة أيضًا، خاصة بعد ما صرَّح به المتحدث باسم البيت الأبيض الأمريكي بأن إسرائيل أبلغتهم بالضربة.

وعمومًا، فكما استطاعت الإدارة القطرية اجتياز الاختبار الأول بحكمة، ستجتازه هذه المرة أيضًا، وسترتد آثاره على إسرائيل في المحافل الدولية.

 

الدور الإقليمي

الدور الإقليمي الذي تؤديه دولة قطر في المنطقة العربية والعالم دور عملاق، وكان أداؤها فيه ناجحًا لدرجة أن صارت الدوحة محط أنظار الساسة في العالم شرقًا وغربًا. فهي تقود الوساطات بين أمريكا وطالبان، وأمريكا وإيران، والمقاومة والكيان، بخلاف وساطات كثيرة قادتها لفض نزاعات بين دول إفريقية أو آسيوية متناحرة، ونجحت في كثير منها، محققة ما عجزت عن تحقيقه دول كبرى في العالم.

مع هذه الأدوار وهذا النجاح، ورفضها الانخراط في مؤامرات إقليمية، خاصة في تلك التي تمس مصير ومستقبل الشعب الفلسطيني الذي وقفت طول الوقت على معرفة بوصلته وخدمتها بوصفها قضية إنسانية محقة، لهذا تَزلقها كثير من الأنظار بشيء من الحسد تارة على صمودها في وجه الإغراءات، وتارة بالحقد عليها ومحاولة تشويهها، بينما تمتد أيادٍ أخرى لتساندها وتدعمها.

 

تساؤلات مهمة

السؤال الأهم: ما الذي سيفيد إسرائيل من اغتيال أفراد الوفد الفلسطيني المفاوض في الدوحة؟ وهل بعد أن تغتالهم ستكون بذلك انتصرت، أم أن مأزقها في غزة لا يزال قائمًا مع حركة فقدت كثيرًا من قادتها ومع ذلك تُلحق بالكيان الخسائر يوميًّا؟

وهل ستنجح في إعادة بناء صورة الغول بعدما حطمها مقاتلون جائعون محاصرون تتجسس عليهم معظم مخابرات الشرق والغرب؟

وهل كان ترامب مخادعًا في مقترحات السلام التي قدَّمها بينما كان يعلم في الوقت نفسه أن إسرائيل ستقصف اجتماع الوسطاء؟

الضربات كانت دليلًا عمليًّا على عدم رغبة نتنياهو في السلام ووقف العدوان على غزة، وخرقًا لقاعدة أخلاقية عرفها أعتى الظالمين في التاريخ، كالمغول مثلًا، وهي أن الوسيط مأمون في روحه وحريته.