تحوّلت المجاعة في السودان من كارثة إنسانية عابرة إلى جريمة سياسية مكتملة الأركان، تلعب فيها الإمارات دور الشريك الخارجي الأبرز عبر تمويل الحرب، وتسليح أطرافها، وتأمين شبكات نهب الذهب والموارد التي خنقت ما تبقّى من اقتصاد البلاد. ما يجري اليوم ليس مجرد صراع داخلي، بل مشروع تجويع ممنهج يُستخدم فيه الخبز والدواء كسلاح، وتتحمل أبوظبي مسؤولية مباشرة في إطالة أمده وتعميق مآسيه.

 

مجاعة مصنوعة لا كارثة طبيعية

 

تقارير الأمم المتحدة تؤكد أن السودان بات البلد الوحيد في العالم الذي ثبتت فيه حالة مجاعة رسميًا حاليًا، مع وجود أكثر من نصف السكان – نحو 25 مليون إنسان – في مستويات مختلفة من انعدام الأمن الغذائي الحاد، بينهم مئات الآلاف في حالة جوع كارثي تهدد حياتهم فورًا. هذا الانهيار لم يأتِ بفعل الجفاف أو الكوارث الطبيعية، بل نتيجة مباشرة لحرب مدمرة عطّلت الزراعة، ودمّرت الأسواق، وقيّدت وصول المساعدات الإنسانية إلى مناطق كاملة، في ما وصفته الأمم المتحدة بأنه “أزمة من صنع الإنسان”. في ظل هذا السياق، يصبح كل سلاح وكل شحنة أموال وكل غطاء سياسي يُقدَّم لأمراء الحرب مساهمة مباشرة في توسيع رقعة الجوع، وهو ما يجعل الدور الإماراتي جزءًا من بنية المجاعة لا مجرد تفصيل سياسي عابر.

 

مجتمع يُساق عمدًا نحو الجوع

 

أكثر من 20 مليون سوداني يعيشون اليوم مستويات حادة من انعدام الأمن الغذائي، بينما يصنَّف مئات الآلاف في المرحلة الخامسة “جوع كارثي” بحسب التصنيف الأممي، في حين يُرغَم الملايين على النزوح والعيش في مخيمات مكتظة تفتقر إلى الغذاء والماء والدواء. تقارير إنسانية تتحدث عن أكثر من 10 ملايين نازح ولاجئ هربوا من القتال، تاركين وراءهم أراضيهم الزراعية وموارد رزقهم، ما أدّى إلى خسارة في إنتاج المحاصيل الأساسية كالذرة الرفيعة والقمح والدخن كانت كفيلة بإطعام عشرات الملايين لمدة عام كامل. بهذه الصورة، لم يعد الجوع نتيجة جانبية للحرب، بل تحوّل إلى أداة إكراه يومي؛ أمّهات يقفن لساعات من أجل كيس دقيق، وأطفال يبحثون عن بقايا طعام، فيما تعجز الأسر عن توفير وجبة واحدة في اليوم مع انفجار الأسعار وانهيار العملة.

 

اقتصاد نهب ترعاه أبوظبي

 

مع تفكك مؤسسات الدولة وسيطرة قوى مسلحة على المنافذ والمعابر، نشأ اقتصاد حرب موازٍ قائم على التهريب والابتزاز والسيطرة المسلحة على سلاسل الإمداد، في حين تحولت موارد السودان – وفي مقدمتها الذهب – إلى غنيمة تتقاسمها مليشيات محلية وشبكات إقليمية ترتبط بشكل وثيق بمراكز قوة في أبوظبي. تقارير تحقيقية دولية ووثائق أممية سابقة وجّهت اتهامات صريحة للإمارات بدعم قوات مسلحة في السودان بالسلاح والمال، وبتسهيل تهريب الذهب السوداني عبر شبكات مرتبطة بسوق الذهب في دبي، ما يعني عمليًا حرمان خزينة الدولة من واحد من أهم مواردها في لحظة انهيار شامل. هذا الترتيب يجعل الإمارات ليست “طرفًا منحازًا” فحسب، بل شريكًا كاملاً في اقتصاد الحرب؛ تدفع الأموال والسلاح إلى الداخل، وتستقبل الذهب والثروات إلى الخارج، بينما يترك الشعب السوداني ليواجه الفقر المدقع والجوع والمجاعة.

 

الجوع كسلاح جيوسياسي

 

الأمم المتحدة تحذّر من أن القيود المفروضة على وصول المساعدات الإنسانية، واستهداف مناطق الإنتاج الزراعي والأسواق وخطوط الإمداد، هي عوامل رئيسية في تعميق المجاعة الحالية في السودان. هذه الممارسات لا يمكن فصلها عن طبيعة الحرب ذاتها التي تحوّل الغذاء إلى أداة سيطرة، حيث تُستخدم المعابر ومخزون الدقيق والوقود كوسائل ضغط على السكان، فيُكافَأ الخاضعون بالغذاء ويُعاقَب الرافضون بالحصار والتجويع، فيما تستمر الأطراف الخارجية الداعمة – وعلى رأسها الإمارات – في تزويد الفصائل المتحاربة بكل ما يلزم لإطالة أمد هذا النموذج من الحكم بالسلاح والخبز. في هذا الإطار، يصبح الجوع قرارًا سياسيًا أكثر منه نتيجة ظرفية؛ من يموّل الحرب يعلم تمامًا أن كل يوم قتال إضافي يعني آلاف الأفواه التي تُحرَم من الطعام ودفعة جديدة من الأطفال الذين ينزلقون إلى سوء تغذية حاد قد لا يُعالَج أبدًا.

 

من يوقف جريمة التجويع؟

 

التحذيرات الدولية اليوم تتحدث عن حاجة السودان إلى مليارات الدولارات من المساعدات العاجلة لإنقاذ نحو 21 مليون شخص داخل البلاد وملايين اللاجئين في الدول المجاورة، لكن هذه الأرقام لن تُغيّر الواقع ما دامت ماكينة الحرب تعمل، وما دام هناك من يضخّ لها المال والسلاح ويحمي شبكات نهبها من الخارج. ما لم تُسمَّ الأشياء بأسمائها ويُواجَه الدور الإماراتي بوصفه شراكة مباشرة في تدمير السودان وتجويع شعبه، ستظل المساعدات الإنسانية مجرّد مسكنات تُسكِت الضمير الدولي بينما يبقى قرار وقف الحرب محتجزًا في عواصم تموّل الخراب وتربح من الفوضى. المجاعة في السودان جريمة سياسية يُسأل عنها أمراء الحرب في الداخل، كما يُسأل عنها من سلّحهم ومَوَّلهم في أبوظبي وغيرها؛ ولن يتوقف الجوع ما لم يُقطع شريان المال والسلاح عن هذه الشبكات، ويُعاد توجيه موارد البلاد لخدمة شعبها لا لخدمة مشاريع الهيمنة الإقليمية.