في صباح يختلط فيه الحزن بالأمل، انطلقت من محطة مصر بوسط القاهرة صافرة القطار الحادي عشر المخصص للعودة الطوعية المجانية للسودانيين المقيمين في مصر، حاملاً على متنه نحو 1200 راكب، بينهم أسر بأكملها، تودع شوارع القاهرة بعد سنوات من النزوح القسري، متجهة نحو الخرطوم عبر رحلة طويلة تبدأ بالقطار إلى أسوان، ثم تستكمل براً إلى الأراضي السودانية.

على رصيف رقم 11، كانت المشاعر أكبر من أن تُختزل في كلمات. عزوز علي، الموظف الحكومي السابق من الخرطوم، هرع ليلحق بالمقاعد القليلة المتاحة، بعدما عجز عن اللحاق بالرحلات السابقة. إلى جانبه، كانت زوجته وابنتاه يحملن أمتعة متواضعة، ويشيّعن بنظراتهن مدينة احتضنتهن لثلاثة أعوام. وبينما يستعدون لركوب القطار، لم تفارقهم دموع الفراق، لكنها لم تخلُ من ابتسامة الأمل بلقاء الوطن.
 

وداع القاهرة.. لحظات استثنائية
تحولت محطة رمسيس في يوم الرحلة إلى مسرح إنساني ضخم؛ أمهات يعانقن صديقات مصريات صنعتهن الغربة، أطفال يتشبثون بحقائب أثقل من أجسادهم، ورجال يودّعون حياة اعتادوها في بلدٍ استقبلهم كأبناء، ليعودوا إلى وطنهم المثقل بالحرب والتحديات. الدموع التي انهمرت لم تكن جميعها حزناً، بل خليطاً من شجن الوداع وفرحة العودة.
 

تفاصيل الرحلة وشروطها
القطار المخصص، وهو من الدرجة الثالثة المكيّفة، لم يكن مريحاً مقارنة برحلات المصريين المعتادة، لكنه مثل فرصة ثمينة للعائلات السودانية التي استنزفت سنوات الغربة مدخراتها. الرحلة تستغرق 15 ساعة متواصلة إلى أسوان، حيث تنتظر الحافلات لنقل الركاب نحو معبر قسطل.

ونظراً للاستغلال غير المشروع لبعض المسافرين، فُرضت قيود صارمة على الأمتعة، مع تسجيل مسبق عبر موقع إلكتروني وأرقام هاتفية خصصتها السفارة السودانية.
 

خلفية المشروع
بدأت مبادرة "العودة الطوعية" في أبريل 2025 بقرار من مجلس السيادة السوداني، وتولت الإشراف عليها منظومة الصناعات الدفاعية. في مرحلتها الأولى، نُقل نحو 10 آلاف سوداني عبر 187 حافلة، لكن مع تزايد الأعداد تم تخصيص قطارات أسبوعية لتخفيف الضغط.

وبحسب القنصل السوداني في أسوان عبد القادر عبد الله محمد، فإن أكثر من 200 ألف سوداني عادوا منذ بداية العام، مع تسجيل يونيو/حزيران الماضي أعلى معدل بعودة قرابة 27 ألف شخص.
 

أصوات من قلب القطار
مروة عثمان، زوجة عزوز، قالت وهي تحتضن ابنتها: "سأفتقد دفء جاراتي المصريات، لم نشعر يوماً أننا غرباء، لكن وجودنا وسط أهلنا في السودان سيهوّن كل شيء".

أما معتز يوسف، شاب سوداني يعمل بالتسويق، فأكد أن ارتفاع تكاليف المعيشة في مصر كان الدافع الأكبر للعودة، مشيراً إلى أن السكن والغذاء في السودان، رغم صعوبة الأوضاع الأمنية، أقل كلفة من الحياة القاسية في القاهرة.
 

استقبال في أسوان
في محطة ميناء السد العالي بأسوان، يشرف المحافظ اللواء إسماعيل كمال على ترتيبات استقبال القادمين، حيث يتم تجهيز حافلات لنقلهم إلى أبو سمبل تمهيداً لعبورهم إلى السودان. وتشارك القوات المسلحة المصرية في تأمين الرحلة وتسهيل مرورها.
 

مشهد إنساني جامع
لم يقتصر المشهد على السودانيين فقط، إذ شارك مصريون في توديع أصدقائهم. الطالب مصطفى حسنين، الذي جاء ليودع زميله السوداني سعيد بشير، قال: "السودانيون أهلنا، عاشوا بيننا وسنظل أشقاء مهما فرقتنا المسافات". ليرد سعيد ضاحكاً: "موعدنا الخرطوم، زائرين لا لاجئين"، في مشهد يعكس عمق الروابط بين الشعبين.
 

بين ألم الفراق وأمل العودة
ورغم ضغوط الغربة وارتفاع كلفة الحياة، تبقى القاهرة بالنسبة لكثير من السودانيين ذكرى دافئة، حملت تفاصيل المقهى الشعبي وأطباق الفول والطعمية وعلاقات إنسانية عابرة للحدود. لكن في عيون العائدين، يظل الأمل في إعادة إعمار الخرطوم أكبر من كل الحنين.

وعلى وقع صافرة القطار، لوّحت ابنتا عزوز للقاهرة من خلف زجاج النافذة، بينما الأب ينظر بعينين ممتلئتين بالدموع والابتسامة معاً، في مشهد يلخص حكاية آلاف الأسر السودانية التي تعيش بين وطنين، وقلبين، وحلم بمستقبل أفضل.