د. عبد التواب بركات
أكاديمي وكاتب مصري – دكتوراه في العلوم الزراعية
أعلن وزير المياه والطاقة الإثيوبي، هبتامو أتفا، اكتمال جميع مراحل بناء سد النهضة وتعبئته. وأجرى رئيس الوزراء أبي أحمد مقابلة تلفزيونية أمام السد بعد أن أعلن في البرلمان عن اكتمال الاستعدادات للاحتفال بالافتتاح الرسمي لمشروع السد الكبير. يأتي هذا الإعلان الأحادي من طرف إثيوبيا في إطار سياسة فرض الأمر الواقع وبسط السيطرة وتأكيد الهيمنة على النيل الأزرق الذي يرفد نهر النيل بـ85% من موارده المائية. وادعى أحمد أمام برلمان بلاده أن سد النهضة لن يسبب ضررًا لمصالح مصر والسودان، وأن سد أسوان لم يفقد حتى لترًا واحدًا من مياهه بسبب السد الإثيوبي. وزعم وزير المياه أن السد الكبير يضمن تدفقًا منظمًا للمياه، ويُقلل من مخاطر الفيضانات لدول المصب، ويوفر فرصة للتعاون بين الدول الثلاث وتبادل منافعه، مما يعود بالنفع على السودان ومصر.
هذه التصريحات الدبلوماسية لا تغير الواقع الجديد الذي فرضته إثيوبيا على الجغرافيا السياسية لنهر النيل وعلاقته الوجودية بمصر، وعبر عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأنه شريان الحياة لمصر وسلبه منها أمر لا يصدق، وتأكيده أن السد خفض تدفق مياه النيل إلى مصر بشكل مقلق.
تهديد وجودي لمصر
وعلى عكس تصريحات أحمد غير الحقيقية واستعدادا لسد العجز المتوقع في حصة مصر المائية أثناء ملء اثيوبيا بحيرة سد النهضة، شرعت الحكومة المصرية في سنة 2016 في سن قوانين لتقليص مساحة زراعة الأرز من 2 مليون فدان إلى 750 ألفا، بهدف ترشيد استهلاك المياه. ولأول مرة في تاريخ مصر الزراعي تفرض الحكومة عقوبة السجن على الفلاحين الذين لا يلتزمون بالمساحات المحددة لزراعة الأرز. وبسبب هذا القرار، الذي يوفر 5 مليارات متر مكعب من المياه كانت تستخدم في زراعة مليون فدان بالأرز، تحولت مصر من دولة مكتفية من الأرز إلى مستورد له، وفقدت مليار دولار سنويًا كانت تعود عليها من تصدير مليون طن من الأرز الأبيض. وفي سنة 2017 أعلنت عن خطة استراتيجية للموارد المائية حتى عام 2050 بتكلفة تصل إلى 100 مليار دولار، تتضمن أربعة محاور رئيسية هي، ترشيد استخدام المياه، وتنقية مياه الصرف الصحي، وتحلية مياه البحر، وتوعية المواطنين بأهمية ترشيد المياه.
ومنذ سنة 2016، نفذت الحكومة مشروعات بقيمة 200 مليار جنيه، منها المشروع القومي لتبطين الترع، أكبر المشروعات على مستوى العالم في هذا المجال، والمشروع القومي لتشجيع المزارعين للتحول من الري بالغمر لنظم الري الحديث، والتوسع في استخدام تطبيقات الري الذكي لترشيد استهلاك المياه، ومشروعات إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي. وتكلف مشروع تبطين الترع بطول 20 ألف كيلو متر نحو 80 مليار جنيه، وفق تصريح السيسي، ثم أعلن وزير الري الحالي هاني سويلم عن فشله. وتكلفت محطة تنقية مياه الصرف في بحر البقر 20 مليار جنيه، ومحطة الدلتا الجديدة 80 مليار جنيه، ومحطة المحسمة 15 مليار جنيه. وأنشأت محطات رفع للمياه بتكلفة 300 مليار جنيه. كل هذه الأموال كانت ستوجه للاستثمار في الصناعة والتعليم والصحة لولا أزمة سد النهضة.
تثبت الدراسات التي قدمتها الحكومة المصرية لمجلس الأمن، أن بحيرة السد العالي عندما تستنزف من المياه لتعويض العجز الناتج عن احتجاز المياه في سد النهضة، فإن انخفاض حصة مصر بعد ذلك بمقدار 20 مليار متر مكعب سيؤدي إلى تبوير 4 ملايين فدان من الرقعة الزراعية، وفقدان 6 ملايين مزارع ينتجون طعام 30 مليون مواطن، وانتشار الفقر، وزيادة الهجرة غير الشرعية لأوروبا، وانتشار التطرف بين الشباب، وخسارة 8.5 مليارات دولار من الإنتاج الزراعي، وزيادة الواردات الغذائية، التي وصلت إلى 60% من الاستهلاك بتكلفة 20 مليار دولار العام الماضي. كان أمام مصر فرصة لوقف بناء السد لو رفعت القضية إلى محكمة العدل الدولية، والتي تفصل في هذه القضايا وفق اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية لسنة 1997، وتلزم المادة 7 من هذه الاتفاقية إثيوبيا بعدم إنشاء مشروعات سدود على مجرى النهر من شأنها التسبب في ضرر ذي شأن لدولة المصب.
مفاوضات عبثية
تمكنت إثيوبيا، تحت غطاء من المفاوضات العبثية التي أفرزها اتفاق مارس سنة 2015، من بناء محبس ضخم على مجرى النهر، وصمام خرساني على شريان الحياة الوحيد الذي يغذي مصر بالمياه، سر الحياة. ومن هذه اللحظة التاريخية، تستطيع إثيوبيا أن تهدد حياة المصريين بالموت غرقا أو عطشا وشرقا. فإذا فتحت بوابات السد فجأة أو انهار السد لأي سبب، اندفعت قنبلة المياه المحتجزة في بحيرة السد بقوة 70 مليار متر مكعب لتغرق المدن والقرى خلف السد من الروصيرص إلى الخرطوم، ومن أسوان إلى دمياط ورشيد في شمال مصر على ساحل البحر المتوسط. وإذا أغلقته، ماتت الحياة بالعطش والجفاف.
عبر عن السيطرة الجديدة، وزير الخارجية جيدو أندارغاتشو، بشعارات الانتصار وبالتخلي عن كل مظاهر الدبلوماسية وبشكل لا يصدق بقوله عقب الانتهاء من الملء الأول للسد في يوليو 2020 "مبروك.. لقد كان نهر النيل وأصبح النهر بحيرة! لن يتدفق بعد الآن إلى النهر، سيكون لدى إثيوبيا كل التنمية التي تريدها منه، الواقع أن النيل لنا، وما قمنا به من بناء سد النهضة هو بمثابة تغيير الرؤية والأهداف وأحدثنا تغييرا في التاريخ والجغرافية السياسية للمنطقة". وقبل الملء الثاني، قال رئيس الوزراء أبي أحمد، في 31 مايو 2021، إن بلاده ستبني أكثر من 100 سد. وكشف عن الهدف من بناء السدود المئة، وهو استخدامها في قطع المياه عن دول بعينها بقوله، إن بناء السدود هو "السبيل الوحيد لمقاومة أي قوى معارضة لإثيوبيا" وفق ما نقلته وكالة الأنباء الإثيوبية الرسمية.
وفي كشف صريح بالتخطيط لبيع المياه لمصر، دافع المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية دينا مفتي عن أحقية بلاده في بيع المياه الفائضة عن حاجتها، وقال في برنامج المسائية على شاشة الجزيرة مباشر في 3 إبريل سنة 2021، أنه لا توجد مشكلة على الإطلاق في بيع حصة بلاده من مياه السد. وفي رده على سؤال مباشر عن بيع المياه بعد اكتمال السد، قال مفتي "ما الذي يمنع؟ الفائض من المياه، والكهرباء أيضًا". وكرر مقدِّم البرنامج سؤاله: لقد فهمت منك أنكم ستبيعون المياه والكهرباء، فهل هذا صحيح؟ فأجاب مفتي "بالتأكيد، ما المانع إذا كانت هناك زيادة عن حاجتنا؟ الجدير بالذكر أن مفتي تراجع في نهاية البرنامج عن تصريحه، لكن التصريحات الرسمية المتواترة تؤكد استهداف إثيوبيا السيطرة والتحكم في مياه النيل الأزرق الذي يرفد مصر بـ 85% من مواردها المائية.
سد غير قانوني
إذا كان من حق إثيوبيا بوصفها دولة منبع أن تستخدم مياه النيل الأزرق في التنمية وإنتاج الكهرباء، فليس من حقها أن تخطط تنميتها على حساب حصة مياه مصر والسودان التي تستخدم في الشرب وإنتاج الغذاء. فقد نظمت المادة 10 من اتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية العلاقة بين الاستخدامات المختلفة للمياه الدولية، ونصت على أنه في حالة وجود تعارض بين استخدامات المجرى المائي الدولي، فيتم إيلاء اهتمام خاص لمقتضيات الحاجات الحيوية للإنسان. وليس من حق إثيوبيا بناء تنمية على حساب الحصة التاريخية للدول الأخرى، وإن لم تعترف بها. فقد ألزمت المادة السادسة من الاتفاقية الدول المشاطئة التي تنظم الانتفاع المنصف والمعقول بالنهر بمراعاة "الاستخدامات القائمة والمحتملة للمجرى المائي". وكذلك المادة السابعة من الاتفاقية التي تلزم الدول المشاطئة بعدم التسبب في ضرر ذي شأن، وأن تتخذ دول المجرى المائي كل التدابير المناسبة للحيلولة دون التسبب في ضرر ذي شأن لدول المجرى المائي الأخرى".
وعند إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل ميليس زيناوي لأول مرة عن بناء السد في سنة 2011، لم تلتزم إثيوبيا بمبادئ القانون الدولي الخاصة بالمياه واتفاقية قانون الاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية التي أقرتها منظمة الأمم المتحدة في سنة 1997 ودخلت حيز التنفيذ في سنة 2014، حيث تلزم المادة 12 إثيوبيا إخطار دول المصب بمشروع السد الذي يمكن أن يكون له أثر ضار ذو شأن قبل أن تقوم بتنفيذه في الوقت المناسب. ونصت المادة 13 على أن تمهل إثيوبيا الدول التي تم إخطارها فترة ستة أشهر تقوم خلالها بدراسة وتقييم الآثار الاقتصادية والبيئية والاجتماعية الممكنة للسد المزمع إنشاؤه وبإبلاغ ما توصلت إليه من نتائج إليها؛ ويمكن أن تُمد هذه الفترة لمدة لا تتجاوز ستة أشهر، بناءً على طلب الدولة التي تم إخطارها المتأثرة بالسد.
وتلزم المادة 14 إثيوبيا بعدم إنشاء السد المزمع قبل إنجاز الدراسات وأخذ موافقة الدول التي تم إخطارها. ارتكبت حكومة المجلس العسكري في مصر، برئاسة عصام شرف، خطأ قانونيا فادحا حين تجاوزت الحق في الإخطار وتورطت في مفاوضات مباشرة حول السد، أفضت في سبتمبر سنة 2011 إلى الاتفاق على تشكيل لجنة خبراء دوليين لتقييم الدراسات حول السد. وعندما وقع النظام المصري الحالي على اتفاقية إعلان مبادئ سد النهضة في مارس سنة 2015، والذي أعطى شرعية قانونية للسد، لم تلتزم إثيوبيا بتنفيذ المبدأ الخامس من الاتفاقية والخاص بالتعاون في الملء الأول وإدارة السد، والذي ينص على تنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية الخاصة بإجراء دراسات لتقييم آثار السد الهيدرولوجية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية على مصر والسودان.
ونصت أيضا على أن تستخدم الدول الثلاث المخرجات النهائية لتلك الدراسات بغرض الاتفاق على قواعد الملء الأول للسد بالتوازي مع عملية بناء السد. وحدد الإطار الزمني لتنفيذ تلك الدراسات على ألا يستغرق أكثر من خمسة عشر شهرًا منذ بداية إعداد الدراسات الموصى بها من جانب لجنة الخبراء. كما لم تلتزم اثيوبيا بتنفيذ المبدأ الثامن من ذات الاتفاقية والخاص بمبدأ أمان السد، والذي ينص على أن تستكمل إثيوبيا التنفيذ الكامل للتوصيات الخاصة بأمان السد الواردة في تقرير لجنة الخبراء الدولية. ومن الأمور المثيرة للتعجب، أن تستمر مصر في المفاوضات لمدة 10 سنين، رغم أن إثيوبيا لم تلتزم بتنفيذ المبدأين الخامس والسادس مع استمرارها في بناء السد. وقد كان ذلك مبررًا لانسحاب مصر من المفاوضات واللجوء لمحكمة العدل الدولية لوقف البناء في السد وفقا لاتفاقية قانون الأمم المتحدة للمجاري المائية الدولية.