في تطور يعكس حجم الأزمة التي يعيشها القضاء التونسي تحت حكم الرئيس قيس سعيّد، قضت إحدى المحاكم بسجن القاضي المعزول ورئيس جمعية القضاة الشبان مراد المسعودي لمدة ثمانية أشهر، في خطوة أثارت عاصفة من الجدل السياسي والحقوقي داخليًا ودوليًا، واعتُبرت امتدادًا لمسار متصاعد من تقييد استقلال القضاء وتكميم الأصوات المعارضة.
تفاصيل المحاكمة والاتهامات المثيرة للجدل
المسعودي، المعروف بمواقفه الجريئة في الدفاع عن القضاة، وُجهت له تهم تتعلق بـ”التأثير على الناخبين” وجمع تزكيات غير قانونية أثناء ترشحه للانتخابات الرئاسية عام 2024.
غير أن هيئة الدفاع كشفت عن غياب محاكمة عادلة، حيث صدر الحكم دون استنطاق أو مرافعات، وهو ما وصفه المحامي سمير بن عمر بـ”المهزلة القضائية” التي تنضاف إلى قائمة طويلة من المحاكمات السياسية التي طالت القضاة في عهد سعيّد.
رغم تقديمه طعونًا قانونية، جرى إيقاف المسعودي منتصف الشهر الماضي، ونُفذ قرار سجنه بسرعة غير معهودة، في مؤشر على تعمد تغييب الضمانات الدستورية والحقوق الأساسية.
خلفية سياسية: من العزل الجماعي إلى التصفية الممنهجة
الحكم على المسعودي لم يكن حدثًا منفصلًا، بل جاء امتدادًا لقرارات سابقة استهدفت عشرات القضاة.
ففي يونيو 2022، أصدر الرئيس سعيّد مرسومًا يقضي بعزل 57 قاضيًا بينهم المسعودي، بتهم وُصفت بأنها “ملفقة”.
ورغم صدور حكم استعجالي من المحكمة الإدارية يقضي بإيقاف قرار العزل، تجاهلت السلطة التنفيذية القرار وواصلت سياسة الإقصاء.
كما تجاهلت تونس قرار المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب في أكتوبر 2024، الذي ألزمها بالعدول عن قرارات العزل.
هذه الخطوات المتكررة أكدت، وفق مراقبين، أن السلطة التنفيذية تسعى إلى السيطرة الكاملة على القضاء وتحويله إلى أداة سياسية.
ردود فعل محلية ودولية غاضبة
الحكم بسجن المسعودي فجّر ردود فعل واسعة. فقد اعتبرت اللجنة الدولية للحقوقيين أن ما يجري يمثل استهدافًا ممنهجًا للقضاة، وطالبت بإطلاق سراحه فورًا.
بينما نددت جمعية القضاة التونسيين بعملية توقيفه التي وصفتها بـ”الاختطاف”، مشيرة إلى أن أعوان أمن بزي مدني اعتدوا على أفراد أسرته أثناء عملية الاعتقال، بينهم أطفال.
هذه الواقعة أعادت فتح ملف استقلال القضاء في تونس بعد حلّ المجلس الأعلى للقضاء عام 2022 واستبداله بمجلس مؤقت يفتقد لأي ضمانات، وهو ما جعل المؤسسة القضائية رهينة بيد السلطة التنفيذية.
قيس سعيّد واستراتيجية إخضاع القضاء
منذ 25 يوليو 2021، تاريخ الإجراءات الاستثنائية التي أطلقها قيس سعيّد، شكّل القضاء أحد أهم أهداف السلطة.
فقد جرى اعتقال وسجن عدد من القضاة البارزين مثل البشير العكرمي وأحمد صواب، إضافة إلى توقيف القاضي حمادي الرحماني قبل الإفراج عنه لاحقًا.
ويرى مراقبون أن ما يجري ليس سوى جزء من مشروع سياسي أوسع يسعى إلى تفكيك مؤسسات الدولة وإخضاعها للرئيس، عبر تحييد الأصوات المستقلة وتحويل القضاء إلى أداة لإقصاء المعارضين السياسيين.
انعكاسات على المشهد التونسي والعملية الانتخابية
يرى خبراء أن الحكم على المسعودي يمثل رسالة تخويف إلى كل القضاة والمعارضين، ويؤكد أن القضاء لم يعد حاميًا للعدالة بل تحول إلى وسيلة لتصفية الحسابات.
كما يثير الحكم مخاوف حول نزاهة الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، في ظل تغييب المنافسين المستقلين، وهو ما يهدد بتحويل الانتخابات إلى مجرد واجهة شكلية تحت الهيمنة الرئاسية.