وائل قنديل

كاتب صحافي مصري

 

يا صديقي: أنت لم ترَ "أبو عبيدة" بعينيك، ولم تتعرّف على ملامحه منذ لمع مثل شهابٍ في سمائنا منذ أكثر من عشر سنوات، متحدّثاً وحيداً باسم أحلامنا العربية وكرامتنا وعزّتنا، فالتفّتْ حوله القلوب والعقول، كأنّه صوت من السماء، خلقه الله لكي يشيع في أرضنا طمأنينةً وأملاً وثقةً في قدرتنا على العيش بشرف.

نحن صدّقنا هذا المُلثّم مجهولَ الملامح، والمختلَف حول اسمه وشخصه، من دون أن يظهر، ذلك لأننا أحببنا خطابه ووثقنا به، واتخذناه بلسماً لأوجاع الروح المهزومة، واعتبرنا كلماته ممّا يحافظ على اليقين بعدالة قضيتنا وحتمية انتصارها في نهاية المطاف. كنّا نترقّبه كلّما راجت المفاهيم الفاسدة واختلّت الموازين، فيأتي الناطق باسم البطولة والبسالة، حاملاً أنباء الصامدين في غزّة، فينعدل كلّ شيء في لحظةٍ واحدة، كما في الأيّام الأخيرة التي اجترحت فيها المقاومة بطولاتٍ أشبه بالمعجزات، مع بدء عملية الغزو الصهيوني مدينة غزّة، واصطياد جنود العدو بالجملة.

كان هذا حتميّاً، في فترة شديدة البؤس، امتدّت أسبوعاً، حافلاً بترويج أشكال فاسدة من البطولة، تختلط فيها النزعة الإجرامية مع التفاهة وقلّة القيمة والابتذال. هنا أطلّ قمر المقاومة في غزّة، ليضيء لنا المفاهيم ويجلو المعاني ويُعيد إلى الأفعال والأشياء تعريفاتها الصحيحة، فيغتسل معنى البطولة مما لحق به من ملوّثات البروباغاندا المجنونة، ونكون أمام نموذج البطل الحقيقي، في المعركة الحقيقية ضدّ العدو الحقيقي والوحيد.

مع انتشار التسريبات والأنباء عن اغتيال الناطق باسم كتائب الشهيد عز الدين القسّام (أبو عبيدة)، خيّمت سحابة من الحزن والشعور باليُتم بامتداد سماء العالم العربي والإسلامي كلّه، باستثناء تلك المناطق الممهورة بغيوم التصهين، حزن ثقيل يشبه ذلك الحزن على "جيفارا" في القرن الماضي، والحزن على استشهاد القادة إسماعيل هنية وحسن نصر الله ويحيى السنوار ومحمد الضيف، على الرغم من أنّ أحداً لم يعرف أبو عبيدة أو يراه وجهاً لوجه، أو يطالع صورته من غير اللثام على شاشة التلفزة، لكنّه الهلع من غياب الصوت الوحيد المعبّر عن روح هذه الأمة، والرعب من اختفاء كلمة الحقّ في زمن الباطل الذي يتنافس الفاسدون والعملاء وخدم الاحتلال في الانتماء إليه، هو حزنٌ على اغتيال القيمة في زمن قلّة القيمة، وأسىً على قتل نداء البقاء في زمن العدم.

في واحدة من احتفالات العدو باغتيال "أبو عبيدة" وهي كثيرة، وفي العاشر من ديسمبر 2023 ظهر الملثّم بصوته على الشاشة، فتنفّست الأمّة الصعداء واجتاحتها الفرحة. سجّلتُ وقتها؛ "حالة الناطق الملثم المقاوم تتجاوز في اتساعها وعمقها كلّ ما سبقها من حالات، على نحو يجعل التعلّق بها والانتماء لها والالتفاف حولها أمراً شديد العفوية والصدق والنقاء، ذلك أنّنا هنا بصدد كاريزما بلا جهاز دعاية ضخم يتولّى صياغتها ووضعها في قوالب إعلامية بالغة القوة والإبهار، ثم تسويقها للجماهير، بل صوت يأتي من مكانٍ مجهول، من دون صورة برّاقة يشرف عليها جيشٌ من خبراء صناعة الطلّة الإعلامية.

ماذا يعني كلّ هذه الشوق لصوت الملثّم بعد انقطاع عدّة أيّام، اشتعلت خلالها الشائعات الصهيونية المسمومة عن استشهاده؟

الشاهد، مرّة أخرى، أنه ليس شوقاً لنجمٍ جماهيري، بقدر ما هو ظمأ شديد لكلمات تطمئن الناس على المقاومة وقدرتها على البقاء والصمود، واجتراح مزيدٍ من المعجزات القتالية والبطولات الشحيحة في هذه المرحلة القاحلة من تاريخ الأمة".

الشاهد أنه مع كلّ إعلان عن اغتيال رمز من رموز المقاومة، وكما جرى في حالتَي السنوار ونصر الله، تنشط ماكينات الدعاية السامّة في ترويج أنّ المقاومة انتهت بعد أن تلقت ضربة قاضية، غير أنّه في كلّ مرّة  تنهض المقاومة من تحت الركام فتنبعث مقاوماتٌ أقوى، وهكذا تُعلّمنا غزّة في كلّ مرّة، فبعد كلّ "سنوار" سنوارٌ أشدّ، وبعد كلّ "ضيف" ضيفٌ أعزُّ وأقوى، ومع اغتيال أبو عبيدة، شهيدنا الحي، والشاهد على خذلاننا جميعاً، فإنّه ما دامت هناك مقاومة هناك صوتٌ ناطق باسمها، فإنْ قتلوا الصوت سوف ينبت ألف صوت وصوت، وإنْ مات الملثم فإنّ روح المقاومة لا تموت، سيأتي "ملثمٌ" جديدٌ ما دام هناك شعب يعرف أبجدية الأرض والدم.