سليم عزوز

كاتب وصحفي مصري

 

لم يجزم الكيان الصهيوني هذه المرة باغتيال الملثم “أبو عبيدة”، فحتى كتابة هذه السطور، قال إنه استهدفه وفي انتظار النتائج. وإذ ينتظر كثيرون الخبر اليقين من حركة حماس، فإنه في المرة السابقة التي أعلن الجانب الإسرائيلي اغتياله، لم تنفِ الحركة ولم تؤكد، إلى أن ظهر الرجل على الشاشات، فبهت الذي ادعى.

الموالون لإسرائيل، سواء من الصهاينة الأقحاح أو العرب الصهاينة، هم من جزموا باغتياله. وليس عندي رغبة في أن أساير عواطف الناس الذين يتمنون ألا يكون الخبر صحيحًا، فما يهمنا في الأمر أنها ليست المرة الأولى التي تعلن فيها إسرائيل اغتياله، وإن كانت الحكومة الإسرائيلية لم تتورط هذه المرة بالإعلان الصريح، فقد سبق أن أعلنت عن نجاحها في خمس مرات منذ ظهوره لأول مرة في معركة الغضب عام 2004، إلى أن تم تكليفه رسميًّا بمهام المتحدث الإعلامي للقسام في 2006، وفي كل مرة يتبين أن الرواية الإسرائيلية كاذبة!

ومعنى هذا أن إسرائيل لا تسيطر على غزة على نحوٍ يمكنها من التوصل إلى ضحايا صواريخها. وإذا كان هذا جائزًا في حروب قصيرة فيما مضى، فإنه يكشف محدودية قدراتها والحرب تقترب من مرور عامين على اندلاعها. فالقوة الإسرائيلية هي في القصف الجوي، لكنها مع ذلك لم تُلمّ بتفاصيل ما يجري على الأرض في غزة، وذلك على عكس سيطرتها على الجنوب اللبناني عن بُعد، بالشكل الذي جعلها في كل مرة تصرح فيها باغتيال رمز هناك، فيكون تصريحها صحيحًا!

والحال كذلك، فإنه من العبث أن تفكر في الغزو البري، وتخضع القطاع لإرادتها، فعندئذ ستكون قواتها وجهًا لوجه مع المقاومة، وسيكون من شأن المواجهة على هذا النحو قبل أيام صورة مصغرة لما سيحدث في قادم الأيام إذا حدث الغزو، وعاد احتلال غزة، وستكون مهمة الإنزال الجوي هي لشحن ما تبقى من جثث الموتى إلى مقابر العائلة في تل أبيب!

 

عناوين المقاومة

نعلم أهمية “أبو عبيدة” بالنسبة للكيان، فهو ليس مجرد متحدث إعلامي للمقاومة، لكنه مؤسسة إعلامية متنقلة، وصار رمزًا لهذه المواجهة من رموزها الكبار مثل يحيى السنوار ومحمد الضيف. فهو أحد عناوين المقاومة الثلاثة في جانبها الحربي، لدرجة أن الرأي العام يتفقده إذا غاب، ويثبت الفؤاد إذا ظهر. ورحيله سيكون انتصارًا رمزيًّا للكيان، الذي يضمر له العداوة لهذا كله، وقبل هذا لأنه من أعلن أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، وبسببه أذلت المقاومة الكيان ومرغت أنفه في الوحل في مفاوضات مذلة، فرضت فيها إراداتها!

ولأن هذه الحرب أظهرت تقزم الجانب الإسرائيلي سلوكًا وأداءً، فإنه من الطبيعي أن يحقق انتصاراته على قواعد المكايدة. ورحم الله زمانًا كان من بني جلدتنا من يتحدثون عن التفوق الحضاري للقوم، فإذا بهم يبدون كهمج، حيث الفرق بين نتنياهو والصفيق أدرعي هو في الدرجة وليس في النوع، فقد انتهى زمن قادة الحروب الكبار في التاريخ، الذين طالعنا نُبلهم في إكبار خصومهم. فهذا الكيان هو تجمع لشذاذ الآفاق على هذا الكوكب!

لا شك أن اغتيال “أبو عبيدة” خسارة كبيرة، ويكفي أنه كان يؤلم العدو، فيستهدفه ويتمنى اغتياله، وينصب “أذرعه” فرحًا على منصات التواصل لذلك. لكن الشهادة هي غاية كل جندي في معارك الحق. وعندما شاهدته على الشاشة بعد انقطاع، كنت أنظر إلى ما يحيط بعينيه، والظاهر منه، فإذا بنا أمام إنسان يتعرض للمجاعة التي فرضها الاحتلال على غزة، في واحدة من الجرائم التي أسقطت الإطار الأخلاقي المصطنع، وأسقطت ورقة التوت التي تستر العورات، فيتحدث البعض عن “التحضر الإسرائيلي”!

هل تذكرون الصورة التي سعى الكيان للترويج لها، في تمثيلية عهد التميمي، التي خرجت من سجونه وكأنها كانت في مداخلة بإحدى الفضائيات بعد أن مرت على غرفة المكياج؟ هل بقي من هذه الصورة شيء؟! وأي نهاية أفضل لمشروع شهيد مثل “أبو عبيدة” من أن يموت من الجوع أم يستشهد برصاص العدو؟!

 

حماس والمساعدات والموتور المصري

لقد تبين من هذه الصورة أن ما يسري على أهالي غزة يسري على قادة المقاومة، فلا يميزون أنفسهم بطعام، مع الدعاية الإسرائيلية بأن حماس تسرق المساعدات. {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا}.

ها هي الأيام تثبت أن “أبو عبيدة” يعيش في غزة، ودعاية الصهاينة العرب أنه خارج القطاع يعيش في الدوحة منعّما مكرّما، وقد اختصوه بتلاوة البيانات من الغرف الباردة الهواء! وها هي أسرته تستشهد جميعًا بقصف إسرائيلي، مع دعاية الصهاينة العرب أيضًا بأن قادة حماس أرسلوا أبناءهم إلى الخارج قبل ساعة الصفر لطوفان الأقصى وتركوا الأهالي هناك لمصيرهم!

ومنذ البداية رأينا موتورًا مصريًّا مواليًا لمنظمة التحرير ينتقل من قناة إلى قناة، وهو يتقيأ أكاذيبه عن أبناء إسماعيل هنية الذين غادروا غزة قبل الحرب إلى تركيا. وكان يتحدث حديث العالم ببواطن الأمور، وهو من يقدم نفسه في مصر على أنه رجل الأجهزة الأمنية، منذ ورطته في الالتحاق بـ”أبو عمار” في حصاره ببيروت، وانخراطه في صفوف قواته. وأي خروج من غزة هو من معبر رفح، ولو كان هذا حصل فعلًا فالأجهزة المصرية على علم به، لكن لم يجد أحد نفسه مطالبًا بالرد على هذا القيء!

وتستشهد أسرة هنية قبل استشهاده في طهران، ولا تجد القنوات الفضائية نفسها مطالبة بالاعتذار، تمامًا كما لم يجد هذا الموتور نفسه مطالبًا بشيء من هذا القبيل. كفانا الله وإياكم شر اليساري إذا تاب!

إذا ثبت أن “أبو عبيدة” (الملثم) قد نال الشهادة فعلًا فهذه خسارة كبيرة، لكن عظمة القضية الفلسطينية أن أجيالًا تسلم الريادة لأجيال، ورموزًا تستشهد لتنهض رموز جديدة. وفي حسابات الحروب فقد استشهد رمزان مهمان في هذه المعركة، من أهل التخطيط والإعداد والمواجهة، محمد الضيف ويحيى السنوار، فلم تتوقف المواجهة. هل أقول إن المقاومة صارت من بعدهما أصلب عودًا وأشرس إذا التقى الجمعان؟ فلم يجد العدو بديلًا إلا الإمعان في قتل المدنيين، والاستمرار في استهداف المستشفيات، وفي تجويع الأهالي، حتى تبدت عوراته للناظرين، وفشل في حسم المعركة لصالحه ونحن نقترب من عامين على اندلاعها!

طبت حيًّا وميتًا يا ملثم!