د. عبد التواب بركات
أكاديمي وكاتب مصري – دكتوراه في العلوم الزراعية
كشف "استحواذ" شركة "إن آر تي سي فود" القابضة الإماراتية، المتخصصة في تسويق الفواكه والخضراوات على مزارع الهاشمية في مصر، عن خلل في منظومة حماية الأراضي الزراعية المصرية من العبث بها، وتقصير مؤسسات الدولة في تقنين تداولها، ومنع سقوطها في أيدي مستثمرين أجانب لا تعرف دولهم ولا أجندتهم ولا ولاءهم، واخترقت عمق الاقتصاد المصري بطرق غير قانونية في كثير من الصفقات، واستحوذت على أصول مصرية استراتيجية صناعية وزراعية وطبية وخدمية، ودون اعتبار للسيادة الوطنية والأمن القومي.
شركة الهاشمية، المالك الأصلي للأرض الزراعية، يلفها الغموض. فلا أحد يعرف مالكها الأصلي، ولا كيف حصلت على تلك المساحة الكبيرة من الأراضي الزراعية. ولا يوجد موقع إلكتروني لها كما تفعل المزارع الكبيرة. وما يتوفر من معلومات عن الشركة يدل على أنها حصلت على تلك الأرض بطريقة غير مشروعة في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك كما كانت العادة. وكشفت صحيفة اليوم السابع بعد أيام من سقوط مبارك أن وزير الزراعة المعين من المجلس العسكري، أيمن أبو حديد، طلب قائمة بأسماء الشركات التي تضع يدها على أراضي الدولة بمنطقة وادي النطرون، وإعداد تقرير بها لمناقشة وضعها القانوني.
وكانت "الهاشمية" في قائمة تلك الشركات، وتضع يدها على 11 ألف فدان في المنطقة. وبعد تغير النظام السياسي تقدمت الشركة بطلب لهيئة التعمير لتقنينها ضمن 200 ألف فدان تضع الشركات الخاصة والأجنبية المجهولة وجمعية الشرطة، وجمعية ضباط أمن الدولة، وجمعية الجهاز المركزي للمحاسبات، وجمعية الدبلوماسيين وغيرها، أياديها على تلك الأراضي بطرق غير قانونية ودون وجه حق، وعلى حساب شباب الخريجين وصغار المزارعين المصريين. وكان من ضمن التهم الموجهة لوزير الزراعة المقال في سنة 2015، صلاح هلال، تقنين آلاف الأفدنة الزراعية التي استولى عليها رجال أعمال بوضع اليد دون الرجوع للهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية صاحبة الولاية عليها.
استحواذ وسيطرة
المعلومات عن شركة الهاشمية وفرتها شركة تدعى "تمكين" على موقعها الإلكتروني، وتكشف عن أن "الهاشمية" تمتلك مزرعة مساحتها 9500 فدان في منطقة وادي النطرون بطريق مصر إسكندرية الصحراوي، وتزرعها محاصيل متنوعة، مثل بنجر السكر على مساحة 3500 فدان تحت نظام الري المحوري الحديث، وتزرع في المزرعة نفسها أشجار الفاكهة من المانغو والموالح والنخيل والعنب في مساحة 2500 فدان، ليصل إجمالي المساحة المزروعة إلى ستة آلاف فدان خلال سنتين فقط، بداية من منتصف سنة 2020. وتدعي "تمكين" أنها تقوم بتوفير مستلزمات الزراعة، وتدير المزرعة بالكامل بموجب عقد شراكة مع "الهاشمية".
وتعرّف "تمكين" نفسها بأنها شركة تأسست في دبي، وتستثمر في الأعمال الزراعية في مصر والسودان والسعودية بامتداد زراعي شاسع يغطي حوالي 30 ألف فدان، ومتخصصة في زراعة المحاصيل النقدية التي تتنوع ما بين الخضراوات إلى الأعشاب الطبية والعطرية، وإدارة الإنتاج الزراعي للشركات الأخرى مثل "الهاشمية". وفي 2021، ظهر خطاب رسمي يظهر أن "الهاشمية" مملوكة لشركة تدعى "تموين جروب" بمفهوم "السيطرة المشتركة"، وتتداول أسهمها في سوق أبوظبي للأوراق المالية بالإمارات. فهل تدرك السلطات المصرية خطورة الاستحواذ والسيطرة على الأمن القومي؟!
مخالفة للدستور
ينص الدستور المصري في مادته رقم 29 على أن تلتزم الدولة بحماية الرقعة الزراعية وزيادتها وتجريم الاعتداء عليها، وتخصيص نسبة من الأراضي المستصلحة لصغار الفلاحين وشباب الخريجين، وحماية الفلاح والعامل الزراعي من الاستغلال. وينص القانون رقم 37 لسنة 1951 على منع غير المصريين والأجانب من تملك الأراضي الزراعية والقابلة للزراعة والصحراوية. وبالتالي، فإن استحواذ شركات أجنبية على مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية يخالف الدستور والقانون، فضلًا عن أن الأراضي التي استحوذت عليها الشركات هي ملك للدولة، وحصلت عليها بالخصخصة ووضع اليد وطرق أخرى ملتوية، مطعون على صحتها أمام القضاء.
ولم نسمع عن شركة زراعية اشترت آلاف الأفدنة من الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية بطرق قانونية، بعيدًا عن المحسوبية السياسية والأمر المباشر دون مزادات علنية شفافة، والتي تفشت في عهد مبارك، وبأسعار حقيقية متضمنة تكلفة شبكات الطرق والري والكهرباء، وليس 50 جنيهًا للفدان، كما ظهر بعد ثورة يناير 2011، حيث أوصت هيئة قضايا الدولة ببطلان عقد بيع 100 ألف فدان في توشكى، لصالح شركة المملكة للتنمية المملوكة للأمير السعودي الوليد بن طلال، لأن مجلس الوزراء باع الأرض بسعر 50 جنيهًا للفدان في سنة 1997، بعد أن زودتها بالطرق والكهرباء وقنوات الري. وأوصت بمراجعة جميع العقود التي منحت بموجبها الحكومة الفاسدة آلاف الأفدنة من الأراضي الزراعية دون حق للمستثمرين الذين أطلقت عليهم شركاء التنمية.
كما أن استحواذ تلك الشركات على مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية يحرم صغار المزارعين وشباب الخريجين من حقهم في تملّك مساحة من الأرض الزراعية، وفق الدستور، يعملون فيها وينتجون طعام الأسرة والمجتمع ويحققون هامش ربح يغطي تكاليف الزراعة ومتطلبات الحياة. وتحول شباب الخريجين وصغار المزارعين من ملاك حقيقيين لأرض بلدهم إلى أُجراء وعمال في شركات أجنبية حصلت على آلاف الأفدنة الزراعية بطرق ملتوية وبالمخالفة للقانون، ويتعرضون للفصل التعسفي والاستغلال الذي حذر منه الدستور.
فساد وليس استثمارًا
الأمثلة على ذلك كثيرة، منها أن وزارة الزراعة تقدمت بعد ثورة يناير ببلاغ للنائب العام تتهم فيه وزير الزراعة الأسبق أحمد الليثي، بصفته رئيس الشركة القابضة للتنمية الزراعية سابقًا، بتمكين رجل الأعمال السعودي عبد الإله الكحكي من الاستيلاء على 26 ألف فدان من الأراضي التابعة لشركة النوبارية لإنتاج البذور "نوباسيد" التابعة للشركة القابضة بمنطقة وادي النطرون، كاملة المرافق، ولم يتكبد ضخ استثمارات جديدة ونقل تكنولوجيا، وتوفر الشركة 70% من البذور في مصر بمبلغ 103 ملايين جنيه فقط وبالتقسيط، ما يعادل أقل من أربعة آلاف جنيه للفدان، وقيام الأخير بفصل وتسريح المئات من العاملين بالشركة والامتناع عن دفع رواتب الآخرين.
وقررت الوزارة التحفظ على ممتلكات الشركة وإسناد إدارتها لمجموعة من العمال، بعد أن غادر المستثمر البلد وترك خزينة الشركة فارغة. وخلال عامين، نجح العمال في تشغيل الشركة وسداد الديون وتحقيق أرباح بالملايين. وفي سنة 2014، أكدت هيئة مفوضي الدولة بطلان عقد البيع، وأوصت باسترجاع الشركة للدولة وعودة العمال وإلغاء قرار خصخصة الشركة.
وعلى غير المتوقع، قرر رئيس الوزراء الأسبق، حازم الببلاوي، إلغاء قرار التحفظ والتصالح مع المستثمر وتمكينه من الشركة مرة أخرى في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، وأصدر الرئيس المؤقت عدلي منصور قرارًا يقضي بقصر الطعن في عقود الدولة على أطراف العقد دون غيرهم. اعترض العمال على القرار أمام محكمة القضاء الإداري التي حولته إلى المحكمة الدستورية العليا. فقضت الأخيرة برفض دعاوى بطلان عقود خصخصة وبيع الشركات وتحصين العقود الجديدة والقديمة، بما فيها "نوباسيد"، ورفض الطعون المقامة من العمال في المحاكم ضد الدولة والمستثمرين، وقصر الطعن على طرفي العقد، الحكومة والمستثمر. وعادت السلطات لعادتها في الخصخصة التي كانت سائدة في عهد مبارك. وأنشأت السلطات لجنة لاسترداد أراضي الدولة برئاسة إبراهيم محلب، رئيس الوزراء الأسبق، فغضت الطرف عن الشركات التي وضعت يدها على الأرض في مقابل خمسين جنيهًا للفدان ولم تزرعها وتقوم ببيعها بأسعار مضاعفة، وتصالحت مع الفلاحين المصريين الذين استزرعوا أفدنة معدودة على نفقتهم الخاصة لعشرات السنين في مقابل 50 ألفًا إلى 75 ألف جنيه للفدان. ومن لم يستطع الدفع، استولى عليها الجيش.
إهدار السيادة الغذائية
تنص المادة 79 من الدستور على أن لكل مواطن الحق في غذاء صحي وكاف، وتلتزم الدولة بتأمين الموارد الغذائية للمواطنين كافة، كما تكفل السيادة الغذائية بشكل مستدام للحفاظ على حقوق الأجيال. استحواذ الشركات الكبيرة على الأراضي الزراعية، يهدر هذا الحق. فهي تزرع المحاصيل التصديرية، التي يطلق عليها المحاصيل النقدية، طمعًا في العائد النقدي المباشر والكبير، منها البرتقال واليوسفي والفراولة والكنتالوب والزيتون والمانغو والعنب والتمور والفراولة. وعند التصدير، تحصل الشركة على حافز تصدير من الدولة، بواقع 10% من قيمة الصادرات. وعادة ما تستهلك هذه المحاصيل مياهًا أكثر من غيرها من المحاصيل الأخرى.
أما الفلاحون وصغار المزارعين، فيزرعون المحاصيل الأساسية التي تحقق الأمن الغذائي، وهي القمح والأرز والذرة والقطن. وهي محاصيل غير نقدية، ولا تحقق هامش ربح للمزارعين، لأن الحكومة تشتريها بأسعار بخسة، وتفرض غرامة مالية على من يمتنع عن توريدها للدولة، وتعاقب بالسجن من يزرع الأرز في مساحة غير مرخص بها، رغم تحرير الزراعة والسماح للمزارع بزراعة ما يريد منذ سنة 1992، وتحرم أصحابها من تصديرها بالأسعار العالمية، رغم جودتها ومكانتها في السوق الدولية. وإذا سمحت بتصديرها مثل الأرز، فإنها تفرض رسوم تصدير على صادراته، ما يعد معايير مزدوجة تزيد من أرباح الشركات وفقر صغار الفلاحين.