وائل قنديل

كاتب صحافي مصري

 

ما فعله وزير الخارجية المصرية بنفسه، وبالدبلوماسية المصرية، وبصورة الدولة المصرية في العالم، أسوأ بكثير من إقدام مجموعات  على التظاهر أمام مقارّ البعثات الدبلوماسية في بعض الدول، ذلك أن ردّة الفعل المتشنّجة من الوزير انتقلت به من الدبلوماسية، ذات السمت الهادئ والرزين، إلى حالة أمنية بوليسية غاضبة حدّ التهور في التعاطي مع مظاهر الاحتجاج المندّدة بالموقف الرسمي المصري من المأساة الشاملة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في غزّة، وهي الاحتجاجات التي وصلت إلى وضع أقفال وجنازير على أبواب مباني البعثات، ووجدت استهجانًا من بعض القطاعات.

كانت هذه، التي اعتبرتها الخارجية تجاوزات في التعبير عن الرأي، تتطلّب معالجةً دبلوماسيةً هادئةً تتجنّب الابتذال والانفعال غير المدروس، الذي بلغ درجة التحريض الرسمي على عنف ضدّ المتظاهرين، اشتمل على توصيات بالخطف والحبس داخل مباني السفارات، مع وصلة من السباب غير الدبلوماسي للمحتجّين ولحكومات الدول الأجنبية التي سمحت بهذه الفعّاليات، ثمّ كان أن سيّرت وقفات مضادّة شديدة الابتذال، للتظاهر أمام سفارات دول أجنبية متهمة من الخارجية المصرية باحترام الحقّ في التعبير أمام البعثات المصرية.

كان يمكن مع قليل من الحكمة والكياسة أن تمرّ مثل هذه التظاهرات بهدوء، لولا أن العقلية الأمنية التي تهيمن على الدبلوماسية حوّلتها مسألةَ أمن قومي، ومؤامرات دولية، ومخططات إخوانية... إلى آخر هذه اللائحة من الردود المحنطّة في رأس نظام لديه من الضحالة الفكرية، والتفاهة السياسية، ما يجعله مثل الغراب الذي يرى نفسه طاووسًا، لأنه يرتدي ريشًا ملوّنًا مستعارًا، ويقلّد مشية الطاووس. وعلى ذلك، ومع كل من يذكّره بطبعه وطبيعته من الأعداء تتلاشي الفروق بين الخطاب البوليسي في الداخل وبين خطاب الدبلوماسية المصرية العريقة بعد أن طاولتها حالة الهزال السياسي القائمة منذ العام 2013، التي جعلت وزير الخارجية يردّد من دون وعي بيانات وزير الداخلية فيما خصّ موضوع المعارضة وحقوق الإنسان، على نحو ما فعله وزير الخارجية بعد انقلاب 2013، ومذبحة رابعة، نبيل فهمي، حين أدلى بتصريحات كاذبة أساءت إلى سمعة الدبلوماسية المصرية، وللمرّة الأولى في تاريخها، يخرج المتحدّث باسم الخارجية في ذلك الوقت، السفير بدر عبد العاطي (صار وزيرًا الآن)، ليكذّب تصريحات وزيره نبيل فهمي، حين ادّعى كذبًا وتلفيقًا، أن تقريرًا لمنظمة العفو الدولية أثبت وجود أسلحة ثقيلة في اعتصام رابعة العدوية، وهو الكلام الذي استهجنته المنظمة الدولية وسخرت منه، فخرج بدر عبد العاطي، متحدّث "الخارجية" الرسمي، بتصريحات أكّد فيها أن الوزير أخطأ. سجّلتُ وقتها أن الخارجية ليست مسؤولةً عن صناعة انتهاكات حقوق الإنسان، لكن استبسالها في الدفاع عن هذا الملفّ، الذي يرى العالم مأساويته بالعين المجرّدة، يجعلها تنخفض بالأداء إلى مستوى ما تبثّه اللجان الإلكترونية.

كان الظن أن تعاطي السفير عبد العاطي مع موضوعات شديدة الحساسية، مثل حرية التعبير في الدول الأوروبية، سيكون أفضل من سابقيه الذين عمل معهما متحدّثًا رسميًا، ثم سفيرًا في غير مكان في القارّة الأوروبية، بيد أنه تصرّف كما لو كان ينقل من أرشيفات المبرّرات القمعية المكدّسة داخل أروقة أجهزة الأمن المصرية، وبدا وكأنه يخاطب الجمهور في الداخل، ذلك الجمهور المحقون بكل ملوثات الوطنية المزيفة، التي تجعله يتصوّر أن تظاهرة أمام سفارة مصرية من شأنها أن تهدم الدولة وتضيّع الوطن، الأمر الذي أثار سخرية العالم على هذه الأداء الدبلوماسي الركيك، حتى جاءت واقعة القنصلية المصرية في نيويورك، وأثارت الأسى على ابتذال الدبلوماسية، ودبلوماسية الابتذال.

الشاهد أن الابتذال كان عنوان المواقف الرسمية حيال العدوان على غزّة، المحاصرة من جميع الجهات، التي تصرخ طلبًا للغوث من الشقيقة الكبرى، أو قل الرئة الوحيدة للقطاع، فلا تجد سوى مهرجانات مبتذلة، مثل ذلك الحشد الرسمي لإخراج تظاهرات شعبية لتفويض "القيادة" في اتخاذ ما تراه لحماية الأمن القومي المصري ودعم القضية الفلسطينية، التي ما زلت أراها بمثابة تهريج في موضع الجدّ الذي لا يحتمل هذا الابتذال المتدفّق من مجالس النواب والشيوخ وأمناء الحوار الوطني والممثّلَين محمّد رمضان ومصطفى بكري في توقيت واحد... والآن من الخارجية المصرية.