علي نور الدين

كاتب وخبير لبناني في الشؤون الاقتصادية والمالية والمصرفية

 

مع مرور الأيّام، تتزايد المؤشّرات التي تدل على اهتزاز موقع الدولار الأميركي وهيمنته داخل النظام المالي العالمي. وهذا الاهتزاز لا يعني بالضرورة التوجّه نحو انهيار نقدي مفاجئ في قيمة هذه العملة، لكنّه يعكس تراجعًا تدريجيًا في قوّتها ومكانتها بكونها عملة احتياط دوليّة، ووسيطاً في أنشطة التجارة العالميّة. ولهذا الاهتزاز تداعيات ستطاول اقتصادات العالم برمّتها، وهو ما يفرض على الدول النامية مراجعة خياراتها وسياساتها النقديّة.

بعد عام 1971، ورغم فك ارتباط الدولار بالذهب، وما تلا ذلك مباشرةً من تراجع في قيمة الدولار، حافظت الولايات المتحدة على هيمنة عملتها في الأسواق العالميّة. وبحلول عام 1975، كان ما يقارب 80% من احتياطات المصارف المركزيّة في العالم، ما زال مقوّمًا بالدولار. ثم استعاد مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) تدريجيًّا قدرته على ضبط التراجع في قيمة الدولار، باستخدام أدوات السياسة النقديّة التقليديّة، وتحديدًا تلك التي تتحكّم بمعدّلات الفوائد لكبح جماح التضخّم.

في تلك الحقبة، كانت هناك عوامل تدعم تنامي هيمنة الدولار الأميركي في الأسواق العالميّة. أبرز هذه العوامل تسارع حركة التجارة الدوليّة، في إطار عولمة الأسواق التي دعمتها الولايات المتحدة، وسائر الدول الغربيّة. وكان الدولار مهيّأً للعب دور وظيفي مميّز، باعتباره عملة تسوية عالميّة، بفضل انفتاح الأسواق الماليّة الأميركيّة وعمقها، والاستقرار السياسي والمؤسّساتي في واشنطن.

ومن العوامل التي دعمت قوّة الدولار وسيطرته في الأسواق العالميّة، القوّة الاقتصاديّة الأميركيّة، وحصّتها من الناتج المحلّي العالمي. وحظي الدولار أيضًا بعامل مساعد إضافي، وهو اعتماده عملةً لتسعير صفقات بيع مصادر الطاقة وتسويتها، ما خلق طلبًا مستقرًا عليه من قبل الدول المستوردة لمصادر الطاقة.

ظلّت قوّة الدولار وهيمنته تاريخيًا، متصلة بالدور الاقتصادي الذي لعبته الولايات المتحدة. ففتح الأسواق، مكّن الشركات الأميركيّة من تصدير العملة الأميركيّة عبر التجارة والاستثمار. وهيمنة هذه العملة عالميًا، أعطت واشنطن نفوذًا سياسيًا واقتصاديًا، وسمحت لها بتمويل العجز في ميزانها التجاري، باستعمال عملتها الخاصّة، من دون التخلّي عن سياسة السوق المفتوحة تجاه العالم. وهكذا ولدت حلقة مستمرّة، تربط بشكلٍ دائم ما بين السياسات التجاريّة المنفتحة، وهيمنة الدولار.

غير أنّ أمورًا عدّة تغيّرت في المشهد، خلال العقد الماضي. فحصّة الدولار الأميركي من احتياطات النقد الدوليّة تراجعت اليوم إلى نحو 58%، مقارنة بـ70% قبل 25 سنة. كذلك انخفضت حصّة الدولار من تسويات المدفوعات الدوليّة من حوالى 52% عام 2000، إلى قرابة 42% اليوم. وخلال الأشهر الماضية، تنامت في واشنطن النقاشات القلقة إزاء مستقبل قوّة الدولار وهيمنته. وهذا ما انعكس في تراجع قيمة الدولار بنسبة تناهز الـ11%، أمام سلّة من العملات المتقدمة، منذ يوم تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

ثمّة العديد من العوامل التي تفسّر هذا التراجع في هيمنة الدولار العالميّة. فمسألة الاستقرار المؤسّساتي في واشنطن، لم تعد مسألة مسلّماً بها، مع تكرار الخلافات الحزبيّة الحادّة حول مسائل مثل سقف الدين والميزانيّة العامّة، واستعمال هذه الخلافات أدواتٍ للابتزاز السياسي المتبادل تحت سقف الكونغرس. في واقع الأمر، اقتربت الحكومة الفيدراليّة من خطر التوقّف عن سداد ديونها خلال ثماني مراحل، في السنوات الـ 25 الماضية، بسبب هذا النوع من الخلافات من الحزبيّة.

وكانت تلك الاضطرابات المؤسّساتيّة السبب الأساسي لتخفيض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة، من قبل الوكالات الثلاث الكبرى المختصّة بهذا النوع من التصنيفات. وبذلك، خسرت سندات الدين العام الأميركيّة تصنيفها الممتاز السابق، الذي عبّر -قبل تخفيض التصنيف- عن امتلاك البلاد أعلى درجات الجدارة الائتمانية.

بيد أنّ سياسات الولايات المتحدة الخارجيّة لعبت أيضًا دورًا مهمًّا في تقويض مكانة الدولار العالميّة المهيمنة. فخلال العقدين الماضيين، أفرطت الإدارات الأميركيّة المتعاقبة في استعمال أنظمة تسوية المدفوعات بالدولار، في وسيلة لفرض القيود والعقوبات الاقتصاديّة والماليّة. وفي العديد من الأحيان، استُعمِلَت هذه القيود كأدوات في سياق حروب تجاريّة، ترمي إلى السيطرة على قطاعات محدّدة، كما فعلت واشنطن مع الصين مثلًا.

لهذا السبب، باتت لدول العالم الأخرى دوافع هيكليّة لتقليص الاعتماد على الدولار الأميركي كعملة احتياط على المدى البعيد، لتفادي الوقوع تحت ابتزاز واشنطن في أي لحظة. وتنامى هذا الاتجاه بفعل السياسات الخارجيّة الأميركيّة المتقلّبة وغير المتوقّعة، والتي انقلبت في العديد من الأحيان على تفاهمات تجاريّة أو سياسيّة أو شركات إقليميّة، بمجرّد تغيّر هويّة الرئيس الأميركي.

وخلال العام الحالي، أسهمت سياسات ترامب في تعزيز الشكوك تجاه السياسات الخارجيّة الأميركيّة، وخصوصًا بعد دخول واشنطن في دوّامة كبيرة من الحروب التجاريّة مع أقرب الحلفاء. بل أفرطت واشنطن في اعتماد السياسات الحمائيّة، وأشعلت معارك الرسوم الجمركيّة المتبادلة مع التكتلات الاقتصاديّة الأخرى، ما شكّل تراجعًا عن الركيزة الأولى لهيمنة الدولار عملةً عالميّة: العولمة وفتح الأسواق وحريّة التجارة العالميّة.

وداخليًا، لم تُظهر إدارة ترامب الكثير من الحرص على التوازنات الماليّة الدقيقة. فقانون ترامب "الكبير والجميل"، المتعلّق بالضرائب والإنفاق، سيسهم في زيادة عجز الميزانيّة العامّة الفيدراليّة بأكثر من 4 تريليونات دولار خلال عقد. وهذا ما سيفاقم أزمة الدين العام الأميركي، الذي تجاوز أساسًا حدود الـ37 تريليون دولار حاليًا، ما يشكّل 120% من الناتج المحلّي الإجمالي.

وفي حقيقة الأمر، بات ثمّة شكوك في أن تخفيض قيمة الدولار الأميركي نفسها، ستكون الطريقة الوحيدة لسداد هذا الدين في المستقبل. وترامب نفسه، ينتمي إلى معسكر المؤمنين بضرورة الحد من قوّة الدولار لدعم صادرات بلاده. وهذا ما يفسّر انتقاداته اللاذعة لجيروم باول، رئيس الاحتياطي الفيدرالي، الذي حاول الحد من التضخّم والحفاظ على قوّة الدولار من خلال عدم الإفراط في خفض معدلات الفوائد.

لا يمكن للدول النامية تجاهل هذه التطوّرات. فتآكل قوّة الدولار الأميركي على المدى البعيد، سيؤدّي إلى المزيد من التضخّم العالمي، ما يعني زيادة في كلفة الاستيراد بالنسبة إلى الدول التي تعاني من عجز في الميزان التجاري. وسيعني هذا التطوّر تآكلًا موازيًا في قيمة الاحتياطات النقديّة، المقوّمة بالدولار النقدي، بما فيها تلك المملوكة من الصناديق السياديّة. أمّا الدول التي تعتمد على صادرات مسعّرة بالدولار، فستخسر جزءًا من القيمة الفعليّة لهذه الصادرات.

أمام الدول النامية العديد من الخيارات للتحوّط إزاء اهتزاز مكانة الدولار العالميّة. وفي طليعة هذه الخيارات، تنويع أشكال احتياطاتها واستثمارات صناديقها السياديّة، لتقليص الانكشاف على الأصول المقوّمة بالدولار. ويمكن أن تشمل هذه الخطوات توسيع الاستثمار في الذهب أو العملات المشفّرة، أو الاستحواذ على أصول مقوّمة بعملات متقدّمة غير الدولار. وبإمكان الدول النامية التوسّع في الاعتماد على اتفاقيّات تبادل العملات المحليّة، التي تُستعمَل حاليًا للاستغناء عن الدولار عملةَ تداول وسيطة. أمّا الأهم، فيبقى توسيع قاعدة الإنتاج المحلّي، وخصوصًا في الدول التي تعاني من عجز كبير في الميزان التجاري، بهدف تقليص تأثّرها بالتذبذبات في قيمة الدولار في الأسواق العالميّة.