سامح راشد
باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط
نشرت صحيفة مصرية خبرَين متناقضَين، يومَي الجمعة والسبت الماضيَّين. الأول بلسان وزير الصناعة والنقل المصري، إذ يبشّر بإنشاء مجمّع متكامل لتصنيع الزبيب وإنتاجه. وفي اليوم التالي، نشرت الصحيفة نفسها (نقلاً عن نائب برلماني) أن مصر تحوّلت قبل عامَين من استيراد الزبيب إلى تصديره.
بقراءة سريعة للخبرَين، يتضح مدى التناقض، أو على الأقلّ المغالطة في أحدهما. إذا كان صحيحاً أن مصر تصدّر ذلك المنتج الزراعي الغذائي، فبالتأكيد لا حاجة إلى تخصيص مواردَ ورؤوس أموال لإنشاء مجمّع صناعي متكامل للمنتج ذاته، فهناك عدد كبير من المنتجات الأخرى أَولى بالتصنيع وتوفير نفقات استيرادها. وإن لم يكن ذلك صحيحاً، فلا بدّ أن تكون واردات مصر من الزبيب الأعلى كلفة واستنزافاً للعملة الأجنبية، وهذا غير صحيح. لكن الوزير المصري برّر فكرة تأسيس مجمّع متكامل لصناعة الزبيب بتوفير العملة الأجنبية الموجّهة لاستيراد كمّيات الزبيب المستهلكة خلال شهر رمضان، وتشغيل عمالة مصرية. قبل أسابيع، أعلن الوزير نفسه (كامل الوزير) أنه يدرس تحويل أراضٍ ومنشآتٍ في مصنع الحديد والصلب المصري، الذي أُغلق العام الماضي، لإقامة مجمّع متكامل لصناعات النسيج والمنتجات المكمّلة لصناعة الملابس الجاهزة. وقبل ثلاثة أيام، أعلن الوزير إعادة تشغيل قطاع واحد من مصنع الحديد والصلب، هو "الوحدة 7"، ولم يفسّر سبب اختيار هذا الجزء تحديداً من المصنع.
تكشف تلك الأخبار والتصريحات المتعارضة خللاً في التخطيط وارتباكاً في منهجية التفكير. ما يعني بالضرورة أولوياتٍ غير ذات أولوية، تستتبع بدورها غياب أجندة واضحة يسير عليها الاقتصاد المصري، في قطاع الصناعة تحديداً. لا دليل واحداً على أن وزير الصناعة يملك رؤيةً واضحةً أو فلسفةً محدّدةً لقطاع الصناعة في مصر، وما إذا كان لديه تصوّر واضح لما يريد تحقيقه لمصر من الصناعة، استهلاك محلّي واكتفاء ذاتي، أو تصدير لتحصيل أموال، أو تصدير لامتلاك نفوذ وأوراق ضغط. لا إجابة محددة لدى مَن هم دون الوزير من عشرات المسؤولين وذوي الصلة، بدءاً بوكلائه، مروراً بهيئة التنمية الصناعية وغرفة الصناعة بشعبها المتعدّدة. ونواب البرلمان ليسوا أفضل حالاً أو أكثر تخصّصاً ومعرفة.
الأمل مفقود في إصلاح ذلك الخلل الهيكلي، قبل أن يُقرّ به وزير الصناعة، وهو نائب رئيس الوزراء (ورئيس وزراء مُحتمَل)، وأن يواجه نفسه بعدم منطقية إغلاق مصنع الحديد والصلب، ثمّ التراجع وإعادة تشغيله جزئياً. وهذا مثال واحد يؤكّد عملياً قصر النظر وغياب الرؤية والتسرع في القرار وتغييب دراسات الجدوى، وبالتالي تضارب السياسات واضطراب الخطوات.
تغيب تماماً، في الواقع المصري الراهن، معايير تحديد الأولويات المبتغاة من الصناعة، فتحديد مجال التصنيع وعمقه يعتمد على المرجوّ منه. فالاستخدام المحلّي بغرض الاكتفاء الذاتي، يوجّه نمط الإنتاج ومواصفاته بما يتلاءم مع طبيعة المستهلك المحلّي وخصائصه، على خلاف التصنيع بغرض التصدير، إذ يتطلّب مطابقةَ المواصفات القياسية للأسواق المُستهلِكة، فضلاً عن تلبية معايير جودة وتسعير تحقق التفوق على المنتجات المنافسة. وثمة صناعات مردودها وطني/ سياسي يتجاوز الدوافع الاقتصادية، وهي الصناعات التي تمكن الدولة من امتلاك قرارها من دون تبعية أو اعتمادية على أطراف أخرى، كما هو حال الصناعات العسكرية على وجه الخصوص. وكذلك صناعات وأنشطة مدنية من أهمها الصناعات الطاقوية، سواء النفطية أو النووية أو الطاقات المتجدّدة.
انتقال مصر من صناعة الصلب إلى إنتاج الزبيب، مؤشّر فاضح لمستوى العقل الاقتصادي والإداري الحاكم. وما لم يتطوّر هذا العقل أو يتغيّر، فلا أمل في صناعة حقيقية أو اقتصاد قوي، لا بالزبيب، ولا بـ"ياميش" رمضان كلّه.