مصطفى عبد السلام
رئيس قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد"
سألت يوم 23 فبراير الماضي في مقال منشور: "هل مصر مجبرة على استيراد الغاز الإسرائيلي؟"، وكانت الإجابة هي أن حكومة مصر ليست مجبرة على ارتكاب تلك الجريمة بحق أمنها القومي والاقتصادي، خاصة أن هناك بدائل لغاز إسرائيل المنهوب، وقلت إن البدائل كثيرة وتأتي عبر استيراد الغاز من أشقاء عرب أو أجانب ودول صديقة، وزيادة الإنتاج المحلي، والإسراع في تنفيذ مشروعات الطاقة البديلة ومنها الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، والأهم سرعة انجاز مشروع مصر النووي أو محطة الضبعة والتي تتكون من 4 مفاعلات نووية لإنتاج الكهرباء بقدرة إجمالية تبلغ 4800 ميغاوات.
وتحمست أكثر للسؤال مع إعلان الحكومة المصرية أكثر من مرة عن بحثها عن بدائل للغاز الإسرائيلي، في ظل الابتزاز الذي تمارسه حكومة الاحتلال من وقت إلى آخر، سواء على مستوى وقف تدفق الغاز أو المطالبة برفع الأسعار وبشكل مبالغ فيه، مع اتخاذ الحكومة خطوات جدية لتأمين احتياجات الطاقة وزيادة واردات الدولة من الوقود، عبر طرح مناقصات لاستيراد نحو 60 شحنة من الغاز الطبيعي المسال لتغطية الاحتياجات حتى نهاية عام 2025، والتأكيد أن الرقم قد يرتفع على المدى الطويل إلى 150 شحنة. الآن، وقعت الفأس في الرأس، كما يقول المثل الشهير، وأبرمت مصر قبل أيام صفقة لتمديد استيراد الغاز الطبيعي من إسرائيل بقيمة 35 مليار دولار ولمدة تصل إلى العام 2040، ومعها ربطت الحقول الإسرائيلية بمحطات إنتاج الغاز المسال في مصر.
ومع رد الفعل العنيف والغاضب على الصفقة التي تعد الأضخم في تاريخ دولة الاحتلال، فإن السؤال التالي والملح: هل يمكن أن تتراجع الحكومة المصرية عن تلك الصفقة، في ظل الرفض الشعبي الواسع لها، واعتراض قوى سياسية وأحزاب وناشطين على أن تكون مصر هي المساند الأول للاقتصاد الإسرائيلي والداعم الأقوى لموازنته التي تعاني من عجز حاد، بسبب كلفة الحرب، في توقيت حرج يشن فيه جيش الاحتلال حرب إبادة جماعية ضد أهالي غزة ويهدد باجتياح القطاع المحاصر؟
زادت أهمية السؤال عقب خروج بنيامين نتنياهو مهدداً الأمن القومي المصري والعربي بشكل مباشر، حينما تحدث قبل أيام عن إسرائيل الكبرى (من النهر إلى البحر) والتي تضم كامل أرض فلسطين التاريخية وأجزاء كبيرة من مصر والأردن ولبنان وسورية، بل وربما العراق وشبه الجزيرة العربية، ويكشف بشكل واضح عن عقيدته التوسعية التي يعمل عليها في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد، وكذا التصريحات الصادرة عن أركان حكومته، وفي المقدمة وزير المالية اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش، والذي يهدد بمحو الدولة الفلسطينية واحتلال غزة والضفة الغربية بالكامل. ولا ينسى المصريون الجريمة التي أقدمت عليها إسرائيل قبل شهور وهي احتلال محور صلاح الدين (فيلادلفي)، المتاخم للحدود المصرية مع قطاع غزة والإخلال باتفاقية السلام، وقبلها احتلال أم الرشراش (إيلات).
هنا يمكن القول إن إعادة النظر في صفقة الغاز التي تعد بمثابة عقد إذعان ممكنة، خاصة أنه لم يعرض الاتفاق الخاص بها على البرلمان المصري، كما أن الحكومة الإسرائيلية لم تصادق بعد على الاتفاقية الأضخم في تاريخ الدولة العبرية، والتي تنص على توريد الغاز إلى مصر لمدة 15 سنة مقبلة. وهنا يمكن للحكومة المصرية التحرك سريعاً لإلغاء الصفقة المثيرة للجدل، إن أرادت، وتوفير احتياجات بديلة للدولة من الغاز، سواء من دول عربية مثل الجزائر وقطر والعراق ودول الخليج وليبيا المجاورة، أو من دول أخرى يتوافر لديها إنتاج واحتياطيات ضخمة من الغاز مثل الولايات المتحدة وروسيا وإيران وماليزيا وأستراليا وأذربيجان.
وهناك فرصة ذهبية أمام صانع القرار في مصر للتوسع في استيراد الغاز من روسيا تحديداً، وبتسهيلات نقدية ضخمة، خاصة أن الاتحاد الأوربي يخطط لتقليص وارداته من هذا الغاز بسبب حرب أوكرانيا، وموسكو تبحث في المقابل عن أسواق جديدة في ظل توافر كميات ضخمة من الوقود الأزرق لديها، إذ لا تزال روسيا ثاني أكبر منتج للغاز الطبيعي في العالم وثاني أكبر مصدر للوقود.
ويمكن أن تلعب تركيا دوراً في نقل الغاز الروسي إلى مصر عبر خطوط الأنابيب والإمكانيات المتوافرة لديها، وهناك خطة يجري العمل عليها بالفعل، وهي أن تصبح تركيا جسراً لمرور ونقل الغاز الروسي إلى أوروبا وبديلاً عن أوكرانيا، بعد انتهاء اتفاقية عبوره للأرضي الأوكرانية. وفي العام الماضي تحدثت موسكو عن خطة لإنشاء مركز توزيع غاز في تركيا، تأمل من خلاله استعادة موطئ قدم في سوق الطاقة الأوروبية، الذي فقدته إلى حد كبير منذ الحرب على أوكرانيا عام 2022.
أيضاً تمثل ليبيا نافذة مهمة لتوفير جزء من احتياجات مصر من الغاز، في ظل تقارب جغرافي وسعر تنافسي وتسهيلات ضخمة متوقعة في السداد، وفي حال حدوث استقرار سياسي وأمني داخل ليبيا، فإنها يمكن أن توفر الاحتياجات الأكبر لمصر من الغاز الطبيعي، ولا سيما أنها تعوم على بحار من النفط والغاز، وتعد خامس أكبر مالكة لاحتياطي الغاز في أفريقيا، وترقد على 50 مليار برميل من "الذهب الأسود"، تخطط لزيادة معدلات إنتاج النفط والغاز من خلال تطوير مشروعات جديدة بالتعاون مع شركات الطاقة العالمية. ولأول مرة منذ 17 عاماً، أعلنت ليبيا قبل أيام عن مناقصات لتطوير حقول النفط والغاز، وتلقت أكثر من 400 طلب من شركات أجنبية.
أيضاً لا ننسى الدعم الشعبي الكبير الذي يمكن أن تحصل عليه الحكومة المصرية في حال إلغاء صفقة الغاز مع إسرائيل، فالمصري يمكن أن يتحمل انقطاع الكهرباء ونقص الوقود ويرشد الاستهلاك بشدة، ولا يتحمل طهي وجبة غذاء بغاز إسرائيل السام، أو أن يضع رقبته وأمنه القومي تحت سكين عدو.
هناك نقطة أخرى تتعلق بالاكتشافات الجديدة للغاز والزيت في الصحراء الغربية وخليج السويس والتي تعلن عنها الحكومة من وقت إلى آخر، وسط توقعات بأن تضيف هذه الاكتشافات نحو 30 مليون قدم مكعبة من الغاز يومياً للإنتاج المحلي. هنا على الحكومة أن تضخ مزيداً من الاستثمارات في القطاع.
بمعايير الأمن القومي، فإنه يجب إعادة النظر في الاتفاقية الأخيرة لاستيراد الغاز الإسرائيلي، وبالمعايير الاقتصادية والربحية، فإنه يمكن استيراد بدائل أرخص كلفة وبلا بنود إذعان كما في الاتفاقية الأخيرة.