كان شارع التسعين في التجمع الخامس يومًا ما أحد العناوين البراقة لـ"القاهرة الجديدة"، رمزًا للتخطيط الحديث والمشهد العمراني النظيف الذي جذب المستثمرين وسكان الطبقة المتوسطة العليا. لكن الصورة اليوم مختلفة تمامًا: حفر متفرقة، كثافة مرورية خانقة، حوادث مروعة كان آخرها اصطدام سيارتين وانفجارهما في قلب الشارع، ومساحات خضراء جُرفت لتحل محلها كتل خرسانية ومحلات تجارية.
ما حدث في شارع التسعين ليس حادثًا عرضيًا أو نتيجة إهمال عابر، بل هو نموذج متكرر في العديد من المناطق الجديدة التي بُنيت تحت شعار "التطوير"، لينتهي بها الحال إلى التدمير الممنهج للبنية العمرانية والبيئية والاجتماعية.

 

شارع التسعين… من التخطيط العصري إلى فوضى المرور

حين وُضع مخطط التجمع الخامس في بدايات الألفية، كان شارع التسعين العمود الفقري للمنطقة، مصممًا ليكون شريانًا واسعًا يخدم الأحياء السكنية والمراكز التجارية. لكن مع غياب رؤية طويلة المدى، أصبح الشارع اليوم ممرًا خانقًا يختنق بالسيارات في ساعات الذروة، دون أي حلول حقيقية لإدارة المرور.
الأسوأ أن تصميم الشارع نفسه لم يواكب التوسع العمراني حوله، فالمداخل والمخارج سيئة التخطيط، والميادين ألغيت أو ضاقت لصالح إنشاءات تجارية، ما زاد من الكثافة المرورية والحوادث.

 

تجريف المساحات الخضراء… جريمة بيئية وعمرانية

من أبرز التغييرات الكارثية التي شهدها شارع التسعين هي إزالة المساحات الخضراء التي كانت جزءًا من تصميم الأحياء السكنية المحيطة به.

 لحدائق العامة الصغيرة التي كانت متنفسًا للسكان، تم اقتلاعها وتحويلها إلى محلات أو مبانٍ إدارية.

 أحواض الزهور والأشجار التي كانت تزين الجزيرة الوسطى للشارع، جرى استبدالها برصيف خرساني أو فتحات مرور.

 النتيجة: فقدان التوازن البيئي، ارتفاع درجة الحرارة في المنطقة، وتراجع جودة الهواء. هذه التغييرات لم تكن بسبب الضرورة، بل بسبب رغبة محمومة في استغلال كل متر مربع لتحقيق عائد مالي سريع.

 

التوسع التجاري العشوائي

في البداية، كان النشاط التجاري على شارع التسعين منظمًا: مجمعات ومراكز تجارية بواجهات موحدة ومواقف سيارات واسعة. لكن مع مرور الوقت، وغياب الرقابة، انتشر البناء التجاري العشوائي:

  • محلات ومطاعم تتكدس على جانبي الطريق بلا أي دراسة مرورية.
  • أبراج إدارية تحجب الرؤية وتضغط على البنية التحتية.
  • احتلال الأرصفة بمظلات وبضائع، ما يجبر المشاة على السير في نهر الطريق.

هذه الفوضى خلقت بيئة مثالية للحوادث، وأفقدت الشارع هويته الأصلية كـ"كورنيش" التجمع.

 

 

حوادث متكررة… وغياب الردع

  • حادثة اصطدام السيارتين الأخيرة في شارع التسعين، والتي انتهت بتفحمهما وسط ذهول المارة، لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة. السبب واضح:
  • تصميم غير آمن للتقاطعات.
  • غياب كاميرات المراقبة الفعالة والرقابة المرورية.
  • السرعات الجنونية التي يسمح بها الشارع لغياب المطبات التخطيطية الذكية أو إشارات المرور المناسبة.

بدلًا من تطوير منظومة السلامة، اكتفت الجهات المعنية بحلول ترقيعية لا تصمد أمام ضغط الواقع.

 

هل هو تدهور متعمد؟

تتزايد التكهنات بين السكان والنشطاء بأن ما يحدث في شارع التسعين وغيره من مناطق القاهرة الجديدة ليس مجرد فشل إداري، بل سياسة متعمدة لدفع السكان وأصحاب الأعمال نحو الانتقال إلى العاصمة الإدارية الجديدة، المشروع الذي تراهن عليه السلطة اقتصاديًا وسياسيًا.
المنطق بسيط: حين يتحول الشارع الرئيسي لمنطقة إلى كابوس مروري وبيئي، وعندما تتدهور جودة الحياة، فإن القادرين على الانتقال سيبحثون عن بديل… والعاصمة الجديدة تفتح ذراعيها.

 

التصميم الكارثي للعاصمة الإدارية… استمرار الفشل

المفارقة أن العاصمة الإدارية نفسها، التي يُدفع الناس نحوها، تعاني من مشكلات تصميمية واضحة حتى قبل اكتمالها:

 شوارع واسعة بلا ظل أو مساحات خضراء كافية.

 مسافات هائلة بين المناطق، ما يجعل الاعتماد على السيارة أمرًا حتميًا.

 غياب رؤية حقيقية لإدارة الزحام المستقبلي، ما ينذر بتكرار مأساة شارع التسعين في نسخة أكبر وأكثر تكلفة.

 

الأحياء الأخرى… نسخة من الكارثة

شارع التسعين ليس حالة معزولة، بل جزء من سلسلة:

  •  مدينة الشروق: تآكلت الحدائق العامة وتحولت لأسواق مكشوفة.
  •  العبور: فوضى مرور وتعديات تجارية على الطرق الرئيسية.
  •  المعادي وكورنيش النيل: إزالة مساحات خضراء لصالح أبراج استثمارية.

 النمط واحد: غياب التخطيط المستقبلي، والاكتفاء برد الفعل على التوسع العمراني بدلًا من استباقه بحلول ذكية.

 

من يملك القرار؟

أحد جذور الأزمة أن عملية التطوير العمراني في مصر تُدار بعقلية المقاول لا بعقلية المخطط الحضري. القرارات تصدر من أعلى، والاعتبارات المالية تطغى على المعايير البيئية والاجتماعية.
لا توجد مشاركة مجتمعية حقيقية في صنع القرار، ولا توجد شفافية في طرح خطط التطوير، ما يترك الباب مفتوحًا أمام القرارات الخاطئة التي لا تخدم إلا فئة محدودة من المستفيدين.

وأخيرا فما يحدث في شارع التسعين هو شهادة حية على كيف يمكن أن يتحول "التطوير" إلى "تدمير" إذا غابت الرؤية وتقدمت المصالح الضيقة على المصلحة العامة. الشارع الذي كان مفخرة التجمع الخامس أصبح اليوم عنوانًا للفوضى والإهمال، وربما لسياسة إفراغ مدروسة تدفع الناس نحو العاصمة الإدارية.

إن حماية المدن الجديدة من مصير التسعين تتطلب إعادة تعريف معنى التطوير: ليس بهدم ما هو قائم وبناء أبراج تجارية، بل بالحفاظ على البنية التحتية، وصيانة المساحات الخضراء، وإدارة المرور بذكاء، وضمان أن تكون المدينة في خدمة سكانها، لا في خدمة المستثمرين فقط.