قال الرئيس التونسي الأسبق منصف المرزوقي تعليقاً على المشهد العربي اليوم: "إلى من يشاركون في مهرجانات الغناء والرقص في الدول العربية، أقول إنه كان الأجدر تنكيس الأعلام وإعلان الحداد على الأطفال الذين يموتون جوعًا في غزة والسودان."
هذا التصريح يلخص مأساة الوعي الرسمي العربي في لحظتنا الراهنة؛ حيث تستمر الحكومات في مصر والسعودية والإمارات وغيرها بفتح مسارحها وشواطئها للغناء الصاخب والحفلات الراقصة والمهرجانات الليلية، بينما في الجهة المقابلة تُغلق الساحات العامة أمام أي وقفة تضامن مع الفلسطينيين، ويُعتقل من يرفع لافتة أو يردد هتافاً ضد العدوان. إنها مفارقة تكشف ليس فقط انفصال السلطة عن شعوبها، بل تفضح طبيعة الأولويات التي صارت مقلوبة: الرقص مباح، التعاطف ممنوع
https://x.com/i/status/1956682230907936961.
الحفلات تتصدر المشهد… بينما غزة تنزف
من يتابع المشهد في مصر مثلاً، يرى كيف تُقام الحفلات الكبرى في منتجعات البحر الأحمر، وفي "الساحل الشمالي" خلال الصيف، حيث تُنفق الملايين على استقدام مغنين عالميين ونجوم عرب، بينما تغيب الدولة نفسها عن أي موقف حقيقي تجاه ما يجري في غزة من مجازر متواصلة. الأمر نفسه يتكرر في السعودية التي تضخ مليارات في هيئة الترفيه لإقامة حفلات غنائية صاخبة، ومهرجانات للرقص، وتستقدم أسماء عالمية في الموسيقى والغناء، بينما في الوقت ذاته يُمنع أي تجمع شعبي أو ندوة سياسية أو وقفة تضامنية مع الفلسطينيين. أما الإمارات فهي النموذج الأوضح، حيث صارت أبوظبي ودبي قبلة للحفلات الليلية المفتوحة، فيما لا مكان فيها لأي صوت شعبي يندد بالاحتلال أو يطالب بمقاطعة.
ازدواجية السلطة: السماح بالترفيه وقمع التضامن
هذه الحكومات ترفع شعار "الاستقرار" لتبرير قمعها، لكنها في الواقع تسمح بخلق أجواء صاخبة للهروب من الوعي الجمعي. فالمواطن الذي يُمنع من التظاهر أمام سفارة إسرائيل، أو حتى من كتابة منشور غاضب على وسائل التواصل، يجد أن ذات السلطة لا تمانع في تجميع عشرات الآلاف في حفلات الغناء والرقص. هذه الازدواجية تكشف عن هدف واضح: تحويل الجماهير من قوى ضغط سياسي محتملة إلى مستهلكين للترفيه، وإشغالهم عن القضايا الكبرى.
مصر: بين قمع المظاهرات وفتح المسارح
في مصر تحديداً، القصة فاضحة. بعد أن خرجت مظاهرات متفرقة دعماً لغزة في الجامعات والشوارع، واجهتها قوات الأمن بالقبض والاعتقالات. بل إن بعض الأصوات التي حاولت إلقاء كلمات في ندوات ثقافية أو مسيرات سلمية جرى إسكاتها. وفي المقابل، ظلت الدولة تروج لحفلات صاخبة على شواطئ الساحل الشمالي وداخل العاصمة نفسها. مسارح القاهرة تفتح أبوابها، الملاهي الليلية تعمل بلا توقف، المنتجعات تشهد أضخم الحفلات. وكأن الرسالة الموجهة للشعب: "الرقص مرحب به، لكن الصرخة لأجل غزة جريمة."
السعودية: "هيئة الترفيه" كبديل عن الوعي
في السعودية، مشروع "الانفتاح" الذي تقوده هيئة الترفيه تحول إلى وسيلة لصناعة مشهد يطغى فيه الترفيه على أي قضية سياسية أو إنسانية. حفلات غنائية عالمية، سباقات سيارات، مهرجانات رقص وإضاءات مبهرة، بينما الأصوات التي تحاول أن تعبر عن تضامن مع غزة تُمنع، وأي محاولة لتنظيم وقفة احتجاجية تُواجه بالقمع الفوري. إنها عملية ممنهجة لإعادة تشكيل المجتمع السعودي: بدلاً من أن يكون وعياً سياسياً متصلاً بقضايا الأمة، يتحول إلى جمهور في حفلة، مبهور بالضوء والصوت، بعيداً عن صراخ الأطفال تحت الأنقاض في غزة.
الإمارات: "واحة الترفيه" مقابل صمت مطبق
أما الإمارات فقد جعلت من نفسها مركزاً إقليمياً للحفلات العالمية. الشواطئ والنوادي الليلية في دبي وأبوظبي تشهد كل أسبوع حفلات صاخبة، فيما تمر المجازر في غزة وكأنها لا تعني أحداً. لا تجرؤ أي مجموعة على تنظيم وقفة تضامنية، ولا يُسمح بمسيرة سلمية ولو محدودة. صمت كامل يغطي المجتمع، بينما آلة الدعاية تروج للبلاد كوجهة للرفاهية والمتعة. هذا التناقض يفضح طبيعة النظام الذي يختار أن يزين صورته أمام الغرب كمركز سياحي، بينما يحجب عن الداخل أي فرصة للتعبير عن غضب أو رفض.
رسالة الشعوب مقابل رسالة الأنظمة
الشعوب العربية، رغم كل القيود، ما زالت تتضامن مع غزة بطرق مختلفة: عبر وسائل التواصل، في الجامعات، في المساجد، أو حتى في بيوتها. لكن الأنظمة لا تسمح لهذا التضامن أن يتحول إلى فعل جماعي منظم. فهي تدرك أن الشارع لو استعاد صوته لأجل فلسطين، فقد يستعيده أيضاً لأجل قضاياه الداخلية: الحرية، العدالة، الكرامة. لذلك يكون الخيار الأسهل للأنظمة هو دفن هذا الصوت تحت طبقات من الموسيقى الصاخبة والحفلات المستمرة.
الحفلات كأداة سياسية
ليست الحفلات مجرد نشاط ترفيهي بريء، بل أصبحت أداة سياسية بامتياز. الحكومات تستثمر في تنظيمها وترويجها، لأنها تمثل وسيلة لإلهاء الناس عن الواقع المرير. المواطن الذي يشاهد نجوم الغناء العالمي في جدة أو دبي أو القاهرة، ربما يُدفع لتناسي مشاهد الأطفال المحاصرين في غزة. إنها محاولة متعمدة لصناعة "وعي بديل": وعي يربط الانتماء بالمتعة والاحتفال، لا بالرفض والمقاومة.
قمع الكلمة الحرة
الأكثر خطورة أن هذا الانحياز للترفيه يقابله قمع وحشي للكلمة الحرة. في مصر، أُوقف طلاب جامعيون فقط لأنهم رفعوا شعارات تضامن. في السعودية، جرى اعتقال أشخاص بسبب تغريدات تنتقد الصمت العربي. في الإمارات، لا يُسمح أساساً بأي نشاط شعبي خارج الإطار الرسمي. المقارنة هنا صارخة: عشرات الآلاف يمكن أن يتجمعوا في مهرجان غنائي بلا إزعاج، لكن خمسة أفراد لا يمكن أن يقفوا رافعين لافتة "أوقفوا المجازر في غزة" دون أن يواجهوا الاعتقال.
فتصريحات المرزوقي إذن لم تأت من فراغ. ففي لحظة إنسانية مأساوية، حيث يموت الأطفال جوعاً تحت الحصار في غزة، ويعاني آلاف من المجاعة في السودان، يكون من العار أن تتحول أولويات الحكومات إلى استقدام مغنين أجانب وفتح الشواطئ للحفلات الماجنة. إنه سقوط أخلاقي قبل أن يكون سياسياً. الأنظمة التي ترفض حتى إعلان الحداد الرمزي أو تنكيس الأعلام، لكنها تسمح بالمهرجانات الليلية، إنما تكشف عن أزمة قيم عميقة.
وفي النهاية فإن المشهد العربي اليوم يظهر التناقض بأبشع صوره: غزة تحت النار، السودان يئن من الجوع، لكن الأنظمة العربية – وخاصة مصر والسعودية والإمارات – تفتح المسارح والشواطئ والمنتجعات للحفلات الماجنة. الرقص مباح، بينما التعاطف ممنوع. هذه ليست مجرد ازدواجية، بل سياسة مقصودة لإخماد صوت الشعوب وتفريغها في مسارات الترفيه. وكما قال المرزوقي، كان الأجدر إعلان الحداد لا إقامة الحفلات. لكن الأنظمة اختارت أن ترفع أصوات الموسيقى لتغطي على صرخات الضحايا. غير أن الحقيقة تبقى واضحة: التاريخ لن يرحم من رقص فوق دماء الأطفال.