حادثة مطاردة مجموعة من الفتيات على طريق الواحات في مدينة 6 أكتوبر، والتي أسفرت عن اصطدام سيارتهن بشاحنة ونجم عنها إصابات متعددة، أعادت إلى الواجهة نقاشًا قديمًا حول "الانفلات الأخلاقي" والأمن الاجتماعي في مصر.
هل هي واقعة معزولة أم حلقة في سلسلة من مظاهر اجتماعية وأمنية ظهرت بعد الانقلاب العسكري في 2013، وتزايدت مع قمع المفكرين والدعاة وسجنهم؟
يبدو أن السلطة الحاكمة منذ الانقلاب قد أنتجت بيئة تسمح بحدوث مثل هذه الحوادث أو حتى بزيادة تكرارها.
الحادثة باختصار: نقطة الانطلاق
وفقًا لتغطية صحفية ومقاطع متداولة، تعرضت سيارة تقل مجموعة من الفتيات للمطاردة من قبل ثلاث سيارات يقودها شبان على طريق الواحات.
هذا الأمر دفعهن إلى تغيير مسار القيادة محاولة للهروب، ما أسفر عن وقوع الاصطدام الذي أدى إلى إصابة وتشوه بعضهن.
تدخلت قوات الأمن لاحقًا وتم القبض على المتهمين. الإعلام والمواقع تناولت الحادثة بعيون مستنكرة للفعل، وسط موجة من التعليقات الأخلاقية والسياسية على منصات التواصل الاجتماعي.
ليست مجرد "انحراف أخلاقي"
قد يدفع الوصف السطحي للحادث إلى اختزاله في إطار "انحراف أخلاقي فردي" أو "اختلال سلوكي لشباب"، لكن قراءة أوسع تُظهر أن وراء هذه الحوادث عوامل متشابكة:
- تفاقم العنف العام
- ضعف الرقابة المجتمعية التقليدية في بعض الأماكن
- انتشار السلاح الأبيض واستخدام السيارات كسلاح
- انتشار ظواهر الاستغلال الجنسي أو المضايقات ضد النساء في الأماكن العامة.
تقارير محلية وإقليمية تشير إلى وجود أنماط استغلال جنسي وتجارة بالأطفال والشباب في المنطقة، ما يعني أن المشكلة ليست فقط أخلاقية بل أيضًا أمنية، اجتماعية، وقانونية.
السياق السياسي وأثر الانقلاب 2013
لا يمكن فصل تطور ظواهر العنف والانفلات الأمني عن السياق السياسي الذي مرت به مصر بعد الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013 وما تلاه من قرارات وسياسات أمنية واجتماعية.
دراسات محلية رصدت تدهورًا في مؤسسات الدولة في المرحلة الأولى من الاضطراب، بما في ذلك زيادة الجرائم المنظمة وفوضى في تطبيق القانون، مما خلق فراغات أمنية واجتماعية انعكست على الشوارع والمجتمعات المصرية.
من جانب آخر، سياسة القمع التي تبنتها السلطة الحاكمة بعد الانقلاب لم تعمل على بناء مؤسسات مدنية فاعلة لحماية المواطنين، بل سعت إلى ترسيخ المنظور الأمني والسيطرة، ما دفع العديد من المشكلات إلى زاوية مظلمة يصعب معالجتها بالقمع فقط.
الأزمة الاقتصادية وانعكاساتها على السلوك الاجتماعي
الأزمة الاقتصادية المستمرة، ارتفاع نسب البطالة، وتدهور مستويات المعيشة تضيف بعدًا عمليًا للسلوكيات "الانفلاتية".
الشباب الذين يفتقدون إلى فرص عمل أو إلى أطر مجتمعية منتجة يصبحون أكثر قابلية للانخراط في أعمال العنف والمضايقات أو تبني أنماط سلوكية تستهين بقيم الآخرين.
كما أن الفقر يسهم في جعل فئات من النساء عرضة للاستغلال أو التعرض لمخاطر الطريق والعمل غير الآمن.
لذلك، الحديث عن "أزمة أخلاقية" فقط يغفل جزءًا كبيرًا من الأسباب المادية والاجتماعية.
الفعل الأمني والخطاب الديني الموجه
منذ وصول النظام الحالي إلى السلطة، تبنّت الدولة خطابًا رسميًا يبدو محافظًا في المجال الثقافي والديني، مع مشاريع مثل "ترميم المساجد" وبرامج دعوية مكثفة.
لكن هذا الخطاب، الذي يدعو إلى "الفضيلة"، لم يقترن بإصلاحات بنيوية في التعليم، سوق العمل، وبرامج الحماية الاجتماعية التي من شأنها تخفيف العوامل المعيقة للسلوك الأخلاقي العام.
في المقابل، اتسمت سياسات ما بعد 2013 بالميل إلى الحلول الأمنية والقمعية، بدلاً من معالجة الأسباب الاجتماعية والسياسية الجذرية.
هذا التناقض بين الظهور بمظهر الحارس الأخلاقي وغياب السياسات الاجتماعية الفاعلة يؤدي إلى نفاق سياسي يُستغل دون معالجة جذرية للمشكلات.
الإعلام وأزمة التغطية: من ضحايا إلى مادة للاستهلاك
التغطية الإعلامية للحوادث مثل حادثة بنات طريق الواحات تشعل منصات السوشيال ميديا بسرعة، لكنها في بعض الأحيان تشوه الضحايا أو تحولهن إلى مادة للاستهلاك الأخلاقي.
التهويل أو اختزال الحادث إلى مؤامرة أخلاقية يفتح الباب لخطاب إقصائي يحمّل الضحايا مسؤولية ما وقع، بدلًا من مساءلة الجناة والظروف التي أنتجت الفعل.
الإعلام هنا يتحمل مسؤولية كبيرة في إبراز الحقيقة وحماية الضحايا دون تغذية خطاب الكراهية أو تبرير العنف.
هل الحادث انعكاس لـ "انفلات أخلاقي متكرر"؟
الإجابة ليست نعم أو لا.
هناك مظاهر متكررة من مضايقات في الشوارع، استهداف للنساء، عمليات تحرش، وأشكال من العنف الجماعي الصغير (مثل مطاردات السيارات) وهي ظواهر ليست جديدة تمامًا، لكنها تزايدت وانتشرت في سنوات ما بعد 2011، في وقت شهدت فيه البلاد تفاقمات اقتصادية وسياسية.
إذن، يمكن القول إن الحادثة تمثل جزءًا من أزمة مركبة: هي "أخلاقية" في مظهرها، لكنها في العمق أزمة أمنية، اجتماعية، وسياسية.
نقد مباشر للحكومة: تقاعس واضح وأولويات خاطئة
إذا كان ثمة مُدانة في هذه القضية، فهي الحكومة الحالية التي فضلت خطاب التجميل الديني والظهور بالقوة الأمنية على الاستثمار في سياسات اجتماعية منتجة.
كان بإمكانها أن تركز على التعليم النوعي، فرص العمل للشباب، مساحات آمنة للنساء، وبرامج إصلاح قضائي ومؤسسي. إلا أن السلطة اعتمدت على خطاب الاحتفاظ بالأمن العام، بينما أهملت البنى الحماية الحقيقية للمواطنين.
هذا الفراغ الأمني والاجتماعي يُعطّل أي محاولة لمعالجة جذور الانفلات، ويحول ملفات كثيرة إلى إدارة أزمات مؤقتة بدلًا من معالجتها بشكل مستدام.
التوصيات لمعالجات فعّالة:
- تحول من الأمني إلى الاجتماعي: برامج تدخل اجتماعي تستهدف الشباب العاطل، مراكز تأهيلية في المناطق الحضرية والهامشية.
- حماية النساء في الأماكن العامة: حملات توعية، إنارة أفضل، دوريات مدنية شرطية مخصصة، قوانين رادعة ضد العنف والمضايقات.
- شفافية الإعلام وحماية الضحايا: تأسيس خط إبلاغ آمن، وتعليم الصحفيين حول تغطية قضايا العنف الجنسي والعنف ضد المرأة.
- إصلاح قضائي ومساءلة علنية: محاسبة الجناة بسرعة وعلنية، وتشديد العقوبات على ممارسات مثل مطاردة السيارات والمضايقات.
- برامج تعليمية وثقافية: تعليم القيم والمواطنة في المدارس والجامعات، مع التركيز على المساواة بين الجنسين واحترام الحقوق.
خاتمة
حادثة "بنات طريق الواحات" ليست مجرد واقعة مروعة تُحكى في الأخبار؛ إنها مؤشر على خلل أعمق في نسيج المجتمع المصري بعد سنوات من الصدمات السياسية والاقتصادية.
وصف ما يحدث بـ "انفلات أخلاقي" لا يكفي، إذ يجب أن ندرك أن هذا الانفلات ناتج عن تراكمات سياسية، اقتصادية، وأمنية.
اللوم الأكبر يقع على منظومة الحكم التي اكتفت بخطب أخلاقية وصور استعراضية دون أن توفر سياسات اجتماعية وقضائية تردع العنف وتحمي المواطنين.
معالجة المشكلة تتطلب إرادة سياسية حقيقية لإصلاح المنظومة كلها، من الاقتصاد والعدالة إلى الثقافة والتعليم. وإلا، سنظل نعايش حوادث مريرة على طرقنا وشوارعنا.